ثقافه وفنون

شمس – قصة قصيرة كتبتها – فيفي جابر

مر شهرين على أخر اتصال جرى بينهما ، مجددا آلت الأمور إلي ذلك الصمت الحالك الذى يعقب كل مرة يستعيدان فيها علاقتهم ويستكملان عشقهما المبتور.. كان يجلس في عقر محله الأسطورى ، الواقع بالشارع التجارى الشهير بوسط المدينة،حيث مقر تجارته الصغيرة للطرح والإيشاربات. يحتمى بجدرانه الضئيلة الحجم ويلتمس دفء جوفه من برد يناير القارس .
يلوم نفسه لعدم ارتداء معطفه الجلد صباح اليوم قبل خروجه إلى عمله ، ولكن المشاحنه التى وقعت بينه وبين زوجته جعلته يترك المنزل غاضبا على عجل ، عقد حاجبيه فى استياء حين غمرته ذكرى المشاجرة الصباحية.
كلما ظن بأن سنوات زواجهم الخمسة قد هذبت من طباع زوجته الحادة وغيرت من خصالها السلبية وجد نفسه متورطا بإحدى المشاحنات التى تثير غضبه وتعكر دمه فيلعن الزواج والساعه واليوم الذى قرر فيه الزواج منها.. حدث نفسه قائلا ..هى طيبة ولكن فضولها يجلب لها المتاعب ويورطها فى أزمات مع الجميع طوال الوقت،ومنزل العائله أهل لذلك .
جميله ولكن كتمثال رائع يفتن الناظرين إليه بألقه ولكنه فى النهاية تمثال يفتقر إلى الحس.. قرر فى لحظة بطولية أن يتزوجها هى وينحى الأخرى، كلتاهما أحببنه ولكنه أحب الأخرى..
كان متأكدا بأنه اتخذ القرار الصائب باختيارها ، فلو لم يفعل لسقطت لقمة سائغه فى أفواه كل العاملين فى قسم التمريض بالمشفى العام ، زملائهم أنذاك ، ولصارت سيرتها مضغتهم لأعوام ،تلتصق بها كعار يصعب التخلص منه فى مثل تلك المجتمعات. هم الذين تكهنوا لهذا الحب بنهاية مذلة،واستكثروه عليها حسدا من عند أنفسهم .. لو لم يفعل لنهشوها بلا رحمة، وكان هو ليعيش معذبا بذنبها. الأن وللمرة الأولى يعترف لنفسه .. كنت غبيا حين رأيت حكمه فى اختيارى لها لهذه الأسباب ، وأقنعت نفسي بأنى أبادلها نفس الحب.
الزواج يمكن له أن يستمر بقرار من العقل ، ولكنه يتطلب فى البداية إشارة من القلب ، وإلا أصبحت الحياة بئر جحيم .. كان يحملق فى شاشة التلفاز الصغير أمامه ، يتبقي دقائق معدودة وتبدأ المباراة التى تحين موعدها فى السابعة ، ولكنه شرد في استعادة محادثتهم التليفونية الأخيرة ما قبل الصمت الأخير..
(شمس) صوتها وحده قادر على انتشاله من عالمه وغرسه فى عالم أخر ملئ بالسحر كان الإتصال الرابع فى أسبوع ، أعقب سلسلة من الرسائل النصية بدأتها هى كعادتها منذ بدأت علاقتهم الموسمية حملت رسالتها الأولى حروف قليلة كالعادة ، تعاتبه كالعادة على مضى أشهر دون أن يطمئن عن أحوالها ولو برسالة ..
وكما كل مرة لم يتوقع حين دوى رنين هاتفه معلنا استقبال رسالة أن الرسالة آتية منها ، خاصة وأن أزمنة الصمت التى تقع بينهما تجعله يصدق أن عودتها مستحيلة.. للمرة الثالثه خلال عامين بدأت بينهم الرسائل بالعتاب والأسف ثم تلاه تبليغ الشوق والأمل إلى أن استعادا تفاصيل العشق بعد ثلاثة أعوام من زواجه بدأت قصتهما كما بدات أول مره كانت تعتقد بأنه سافر من أجل العمل وأنهكته الغربة فحالت دون اتصاله بها واكتفت بتلك الأسباب لتسامحه..
يوما ما سيعود ليتمم قصتهما بالنهاية السعيدة ..
-حلم- راودها عنه ذات ليلة قض مضجعها وسلب هدوئها وراحة نفسها فقررت أن تتصل به صعق حينما جائه صوتها على الطرف الأخر.
أخجله وفائها له بعد سنوات من الفراق،أعاد له صوتها روح الحب الذى ظن أنه انتهى منه في اليوم وقع فيه على وثيقة زواجه حدثته بصوت يغلفه الحب زادته سنوات الفراق توهجا لكنه لم يجرؤ على إخبارها حقيقة ما حدث ، وأنه الأن زوج وأب لطفلين،خشي أن يفقدها من جديد،وهى التى من جديد حملته إلى خارج نطاق الواقع وأدخلته عالمها الساحر وبثت فيه من روحها الأمل ..
مضى أسبوعين استحال عليهما اللقاء ،لكنهم لم يتوقفا عن الإتصال دفعهم الحرمان لتعويض ما فقدوه في سنوات الفراق.. دون شعور بالاكتفاء،وبينما ازدادت تساؤلاتهاعن حقيقة ما جرى ..كان عليه أن يصارحها، فحدث ما كان يخشاه وفقد وصالها من جديد حينها كان واثقا من خسارتها نهائيا. ولم لا بعد تأكدت لها خيانته؟
إلا أنه استلم رساله منها بعد تلك الواقعه بستة أشهر ، للاطمئنان عنه..ليس أكثر! كان حبهما موسميا يحين برسالة عتاب وينتهى باتصال مأساوى كلما استحال أمر إلتقاء الشتيتين.. الحواجز التى وقفت بين(شمس) وبين اللحظة التى تحيا على أمل مجيئها كانت تفقدها زمام حكمتها في ذروة استحضار الحب.. فتجبرها أن تبتعد على وعد بعدم التراجع أبدا تماما كما حدث فى محادثتهم الأخيرة. لم يكن يملك حق لومها،بل كان يؤيد حنقها ..
أحرز فريقه المفضل هدفا فى شباك غريمه ولكنه كان غافل عن متابعة اللعبة ، التى بدأت قبل خمس وأربعون دقيقة من الأن .. داهمه صقيع بدا كأنه ينبعث من روحه .. انتهى الشوط الأول ، والأن استراحه قصيرة ، فكر أن يخرج لتفقد أحوال الشارع والمحال ، سار بضعة خطوات قبل أن يصل إلى درجات السلم الرخامية المؤدية للخارج ، آلمته ركبته أثناء سيره، وراح يدلك بيده موضع الألم وهو يلعن الشتاء ورغبته في لعب الكرة وهو يتمتم في نفسه”عجوز في الثانيه والثلاثين”..
أكمل بعد ذلك هبوط السلم حتى أصبح على عتبة بوابة البناية في الخارج أنعشته رائحة المطر الذى غسل أسطح البنايات والأرصفه واجزاء من واجهات المحلات كانت حركة الشارع هادئه كما عهدها فى هذا التوقيت من العام ، وأضافت العتمه التى خلفتها أعمدة الإنارة المطفأه،أجواء من الحزن يضاهى الذى يعتصره الأن..
وقف يراقب حركة الشارع،تتنقل عيناه من رأس الشارع اليمنى إلى اليسرى بوتيرة غير منتظمه،حين خطر له أن يصنع كوب من الشاى،يمنحه شئ من الدفء.. فعاد مرة أخرى إلى عمق (كهفه).على الأرض كان البراد الكهربائى المجهز بالمياه مسبقا فقط ضغط زر التشغيل،إلتقط كوب زجاجى وضع به ملعقة من السكر وأخرى من الشاى أفرغهم من وعائين زجاجيين موجودان بالقرب من البراد الكهربائى،جذب انتباهه سماع صوت أقدام تصعد درجات السلم. بعد لحظات أدركته صاحبة الصوت.كانت إمرأه موشحه بالسواد من رأسها إلى أسفل قدميها لا يظهر منها سوى عينيها .. دربته سنوات التجارة أن يمهل عميلاته حينا من الوقت حتى تألفن المكان قبل أن يتدخل بالمساعدة ..
توقف البراد اتوماتيكيا بعد أن وصلت المياه إلى درجة الغليان ، فرفعه وأفرغ منه الماء داخل الكوب الزجاجى المجهز بالشاى والسكر.. كان على وشك التدخل وسؤال سيدة الأسود عن طلبها لكن صوتها عصف به كإعصار وكادت الكوب تسقط من يده حدق فيها بدهشة غير مصدق عينيها أنها هى (شمس) ذات العينيان اللوزيتان واعتراه سؤال ..متى ارتدت النقاب؟! قالت له بنبرة منخفضه ، يملؤها الحزن .. أمى مريضه ، بالكبد ، الطبيب يطلب إجراء أشعة و بعض التحاليل ، لم أعرف ماذا أفعل وأنا وهى بمفردنا . ترك فورا من يده .أين هى الأن ؟..
فى العيادة تنتظرنى ، قلت لها سأعود على الفور .. لم يتردد وطلب منها أن ترشده إلى العيادة في طريق الخروج طلب من جاره الاعتناء بالمحل في غيابه شحنه من الأحاسيس اختلطت وتكالبت عليه ، كيف لم يعرفها قبل أن يأتيه صوتها ، كيف لم يهتدى إليها بمجرد الحس ، من أثير حضورها ، وشذى عطر أنفاسها ، لماذا ترتدى هذا الزى ، ومتى قررت أن ترتديه ؟ ولكنها حسنا فعلت باللجوء إليه ، فله الشفاعة رغم كل شئ.. كانا يسيران بمحاذاة الرصيف الطولى الممتد حتى نهاية الشارع التجارى الطويل ، ولكنها توقفت فجأة وأشارت نحو الجهه المقابله من الرصيف .هذا البرج ، الطابق الثانى .. مرقا الشارع معا ، متقاربين بحيث تسربت إليه ذبذبات جسدها المرتبك وبث إليها شحنات من جسده المفعم بالفرح والأسئله ، صراع ما بين الحب والحرب .
لم يمكنه أن يحيد بتفكيره عنها ، عن شوقه إليها ، وعن رغبته في عناقها وأن يسكن عينيها الحانيتان ، وأن يلقي بلوعته بين يديها ويخر لها نادما على فعلته ، ولكنه لم يفعل .. مضت سنوات طويلة على أخر لقاء جمعهما ، كان ذلك قبل زواجه بأشهر قليلة ، كان اللقاء الذى ودعها فيه دون علمها ، بعيون مثقله بالدموع وحديث محايد غير واضح ولكنه يلوح بالفراق -سرا- ..قالت له.. لن أكون لسواك .. وفعلت ، حتى اليوم . في العيادة كانت الأم تجلس فى انتظار عودة ابنتها ، التى عادت أخيرا بصحبة رجل غريب ، السؤال الذى سرعان ما برز من عينيها المثقلتان بالاجهاد والمرض فسارعت (شمس) بإجابتها ، أنه من مركز الأشعة لا تقلقي يا أمى ستكونى بخير.. سارع بمساعدتها فى النهوض لأخدها إلى المختبر ، كان جسدها الممتلئ والوهن الذى ألحقه بها مرضها يثقلان خطواتها .
المختبر بعد عدة بنايات فى نفس الشارع ، قالت تشير لوالدتها فقال لها مباغتا .. كل شئ سيكون على مايرام ، لا تقلقي أراد أيضا أن يمنحها شعور بالطمأنينة ، كما فعلت هى قبل قليل مع والدتها ، فشكرته والدتها ..جزاك الله كل خير يابنى. كانت عيناها تشتعل بالغضب والحب ، وتمنى لو بإمكانه أن يقتلع من قلبها كل جذور الخوف والحزن . قادهما إلى البنايه الشاهقه ، فى المدخل الكبير أشارت اللافتات المعلقه إلى الطابق الرابع ، فاتجهوا إلى المصعد ، كانوا ثلاثتهم والصمت المفعم بالجدال العشقي والرغبة في السلام والتوحد .
كان شعوره بالبرد قد تلاشي ،الأن يشعر بدفء ينبعث من قلبه توقف المصعد بالطابق الرابع ، خرجوا ثلاثتهم وساروا فى اتجاه الأسهم الجداريه بالردهه النصف دائريه إلى يسار المصعد دلفوا عبر الباب العريض إلى داخل المختبر ، الذى يعج بالعاملين والمرضى ساعد الأم فيالجلوس ثم طلب من(شمس) أن تعطيه الورقه المدون بها الفحوصات المطلوبة ، مدت له يدها بالورقه فأخذها وسار نحو موظف الإستقبال كانت تراقبه بعينين عاشقتين مولعتين ملوعتان، يغمرهما الآسى ، ويضج صدرها بنشيج هزمتها السنين وأحرقها الانتظار ، والأن لا تقوى حتى على الكلام كادت تجهش بالبكاء ، أشاحت بوجهها بعيدا لكيلا تلحظ والدتها فى صمت كفكفت دموعها البائسة ، وبعد لحظات عاد إليهم وبصحبته فردا من الفنيين ليصحبهم لإتمام الفحوصات ..
خارج حجرة الأشعه ، وقف عاجزا فى انتظار خروجها ، كانت مسافة وهميه تفصل بينهما من جديد جعلته يقف فى لحظة مواجهة الحقيقة ، ويعترف أنه خذلها ولا زال يخذلها فى كل لحظة تظل بعيدة عنه ، واعترف بأنه الأن فقط يدرك أنها هى كل ما أراده دوما وأبدا وضللته مثاليته ذات اللامعنى الدرب التى كان عليه أن يسعى لها باليقين الحق بعد ثلاثون دقيقة مرت عليه كأعوام ، انبلج الباب المعدنى لتعبر منه (شمس) ووالدتها تستند إليها بوهن ترمقه بعين مستكينه ..من فضلك ساعدنى للوصول إلى الإستراحه رافقتهم الأم مستسلمه لأيديهم فى سكون ، حتى وصلوا بها إلى استراحه المرضى ، والمبارزة الحسية المشتعلة بينهم لازالت مشتعلة ففكر أن ينتحى بها جانبا ليمكنه الحديث معها ولكن تعلق الأم بابنتها جعله ينحى فكرته بينما صراعه الداخلى يكاد يفقده رباطة جأشه ، ويطارده تساؤلا كان يعى إجابته تماما، كيف سأدعى بعد نهاية الأمر أن شيئا لم يكن ؟!
لابد من تصحيح الخطأ ..هكذا أدركه صوت يقينه فأجابه بلى. استجمع قواه ورتب فى عقله عدد من الجمل المختصرة التى تفي بعرض حجته وطلبه ، وقرر أن يبوح لها الأن تدافعت الكلمات على طرف لسانه فى انتظار اطلاق سراحها ، ولكن صورة طفليه دفقت فجأة فى مخيلته ، أصابته بهزيمة غير متوقعه وسرعان ما لاحقه شعور بالذنب تجاه من اختارها والواقع بأنيابه التى لا ترحم وثرثرة المتطفلين وأعين الجلادين ومحكمة العائلة ليجد نفسه أسير قيود كان قد اختارها يوما لنفسه .

فيفي جابر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى