الروائي الكبير محمد جبريل يكتب :ما لا نراه

في ” القرآن الكريم” ” فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ( الحافة 38 ) أي أن المدى البصري – مهما يبتعد – فهو محدود. مع ذلك، فإننا قد لا نستطيع رؤيته، وهو ما ينتسب إلى رؤيا لغيب، وهذا الغيب – بالطبع – نسبي. رؤى مستحدثات العلم عرّفتنا إلى خطأ الكثير من الثوابت في حياتنا.

الحديث النبوي يقول: ” اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بعيون الله”.

وتروي كتب التاريخ الإسلامي عن هتاف الخليفة عمر بن الخطاب: يا سارية الجبل!.

كان عمر في الحجاز، بينما سارية في أقصى العراق. سمع سارية صوت الخليفة، فاحتمى بالجبل من قوات العدو التي أحاطت به، وانتصر.

ويرى ابن عطاء الله السكندري أن قراءة الخواطر إدراك خاص، يهبه الله تعالى لمن صفا قلبه من الشواغل والشوائب، وهو ما ظهر في الكثير من رجال التصوف الذين يقرأون الخواطر دون عناء، ويطلعون على بعض ما في صدور الناس من أسرار. وينقل الشيخ مصطفى عبد الرازق عن المتصوفة قولهم إن أهل المجاهدة – المتصوفة – يدركون كثيرًا من الواقعات قبل وقوعها، وأن تعمقهم في التصوف يجعلهم علماء بالغيب، بما يضعهم في مكانة أرفع من مكانة الأنبياء والمرسلين الذين يقرون أن الغيب علم تملكه الذات الإلهية.

ومن المكاشفات التي تنسب لأبي العباس الرسي، مارواه ابنه جمال الدين: ” ورد رسول الإفرنج إلى الإسكندرة، فذهبت لأراه، ولم أعلم الشيخ. فلما رجعت سألني الشيخ: أين كنت؟. قلت: ههنا. فقل لي: بل ذهبت لرؤية رسول الإرنج. أتظن أن شيئًا من أحوالك يخفى عليّ؟.. كان رسول الإرنج لابسًا كذا وكذا، راكبًا على هيئة كذا، عن يمينه فلان، وعن يساره فلان. ووصف الحالة كما كانت عليه”.

وفي رواية لخادم الشيخ – عبد العزيز المديوني – أن الشيخ سأله يومًا: أسقيت الفرس؟. ولم يكن الخادم سقاها، لكنه أجاب – خوفًا من الشيخ – بنعم. كرر الشيخ سؤاله، وأعاد الخادم رده: نعم. فواجهه الشيخ بالقول: ما الذي يدعوك أن تقول غير الحق؟ وماذا كنت أصنع بك إن لم تكن سقيتها؟

وثمة رواية عن دعوة الإمام جماعة من أصحابه، وقدم لهم عصيدة لا تتناسب سخنتها مع حر الصيف. قالوا: يا أبا العباس، لا تؤكل العصيدة إلّا في أيام الشتاء. قال: هذه عصيدة ياقوت، ولد اليوم ببلاد الحبشة. تضسف الرواية أن ياقوت تنقل بين أسواق الرقيق، حتى جاء إلى أبي العباس. فلما حسب المحيطين بابي العباس عمره، تأكدوا من صدق نبوءته.

 *

لا أحاول – فيما سأرويه – أن أتمحك في أفعال الصوفية، المكاشفات والكرامات وما قد يجاوز المعجزات والخوارق والظواهر التي يصعب تفسيرها.

لم تكن النبوءة مقصورة على العراف المجنون وحده، كما في قصتي ” نبوءة عراف مجنون”. حاولت – في الكثير مما كتبت – أن أراجع تطورات الأحداث، أرنو إلى المستقبل بعيني زرقاء اليمامة.

“ما لا نراه” اسم قصة قصيرة، ضمنتها مجموعة بالاسم نفسه.

اتسمت أقوال الجدة وملاحظاتها بقراءة ما قد تضمره النفوس، وما قد تخص به الأقدار بعض الأشخاص، تفسر الأفعال التلقائية، أو المتعدة، بأشياء تتوقع حدوثها، ويتحقق ما توقعته بالفعل.

الجدة التي ترى ما لا يراه الآخرون، تعبير – على نحو ما – عن شعوري بالقادم، بالمستقبل.

تصف زوجتي الأمر بأنه شفافية، لكن الشفافية صفة يصعب أن أنسبها إلى نفسي. أنظر إلى ملامح المرء، أتعرف إلى ما يضمره، أحدس إنه يقطع مشوار النهاية، لا أسباب محددة، لكنه الشعور في داخلى، سمه ” توقع” أو ” تخمين ” أو ” نبوءة “، لكنه شعور شبه يقيني بأن المرء من عالم آخر، وإن عاش في العالم الذي نعيشه.

أترك لتقديرك تسمية هذا الذي يرافق بعض الأحداث في حياتي، يسبقها أو يرافقها، لكنه يتداخل معها فيفرض ما أتوقعه. أعرف أن ذلك ما سيحدث، ما سأواجهه في اللحظة، أو اللحظات، التالية. لا أعرف لماذا، ولا أحاول تبين بواعثه، مجرد تخمين، حدس، تنبؤ، حدث أتوقعه، هو ليس حدثًا طيبًا في كل الأحوال، لكنه يأتي – حسب توقعي – في موعده.

قامت مدرستي – الفرنسية الأميرية بمحرم بك – برحلة إلى مطار الدخيلة العسكري. وأنا أهبط من الطائرة الصغيرة، قلت لنفسي: سأسقط!.

وسقطت بالفعل.

تعثرت قدماي في السلم الحديدي، وسقطت.

وفي أثناء وقوفي بين الصفوف في نادى مدرسة إبراهيم الأول، همست لنفسي: هل يؤذيني المدرب؟

كنت ضمن ثلاثة صفوف، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى إلقاء السؤال، ولا الخوف من نتائج محتملة، لكن المدرب اخترق الصفوف حتى قبالتي، واجهني تمامًا، وصفعني: قف جيدًا.

وتابعت – ذات مساء – خناقة بين أقارب لي في بيت عمتي بالمنيرة. هنأت نفسى بأني بعيد عن مثل تلك المشكلات، وأن من فقد أباه قبل أشهر قليلة يستطيع أن يطمئن إلى عطف الآخرين. وما كادت دقائق تمضي حتى أقدم واحد من أقاربي – لسبب لا أذكره – على ضربي. وأقدمت – برد فعل لم أتوقعه في نفسي – على تمزيق جلبابه، شققت الجلباب تمامًا، فانحسر عن ثيابه الداخلية.

وكانت وفاء خادمة في بيت عمتي. لم يكن ظهر على جسدها أمارات حمل. قلت دون تدبر: هذه البنت حامل.

غبت أشهرًا، وعدت.

فاجأتني عمتي بالقول: أعدنا وفاء إلى أهلها.

كانت حاملًا بالفعل.

وفي الليلة التي رحل فيها أخي الأكبر عن الحياة، أعددنا حفلًا بعيد ميلاده في مستشفى المقاولون العرب.

قلت لزوجتي وأنا أنظر إلى علبة التورتة في مقعد السيارة الخلفي:

– علي سيموت اليوم.

تساءلت زوجتى:

– ما الذى دفعك إلى هذا القول؟

هززت رأسي:

– لا أعرف، فقط أشعر أنه سيرحل اليوم.

ومات أخي في الليلة نفسها، في ظروف حدثتك عنها من قبل.

وصحوت – ذات عصر – على كتمة نفس، أشفقت من تأثيرها، فقمت.

وأنا أتهيأ للخروج من البيت، فوجئت بأن سيارتي ليست فى مكانها. عرفت من البواب أنه رأى السيارة عند رفع أذان المغرب، أي قبل نصف ساعة من نزولي الطريق.

ربما كانت كتمة النفس مؤشراً بحادثة سرقة السيارة!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى