ثقافه وفنون

إسراء عبد التواب تكتب ” مواسم الهجرة للأبوة “

 

” إنها إمرأة موسمية”.. يصفها العشاق بالمتقلبة والأقارب بـ “الاسعة”، والأصدقاء بالمجنونة، لكنها تفتقد الأمان، تفتش عنه فى كل العيون فلا تجده، عيون أبيها فقط كانت تنفى عنها كل تلك الصفات وتتنكر منها، تجعلها مستقرة ومطمئنة لحد كبير رغم تبدل المواسم والشهور والأيام .

لا تتذكر أبدا فى طفولتها وهى بين أحضانه إحساسها بالمواسم
لا تتذكر أبدا فى طفولتها وهى بين أحضانه إحساسها بالمواسم

لا تتذكر أبدا فى طفولتها وهى بين أحضانه إحساسها بالمواسم، كانت الشهور تمر عليها بخفة شديدة، وهى تنعم بالنوم الهادئ بين دفقات حنان،  يظللها سقف عاطفته فتشعربراحة البيت، وتعرف للنوم طعما جميلا يشبه ملمس الحرير، لم تكن طفلة نزقة بل ثابتة لا يزعزها خوف ولا أرق ولا تقلب، وعند وفاته انهالت عليها المواسم مثل دفقات المطر، وتأكد الغياب بالتقلب الشديد، حينها خاطبت الرب وهى صغيرة : “لن أكتب لك رسائل بعد اليوم”.

تحولت السرائر كلها إلى أحجاروهجرت طمأنينة البيوت، وخلت جميعها من الأسقف واستقر اللصوص فى أحلامها يهاجمنها وهى تجرى عارية دون ملابس، تظل ترقد فى الأحلام عارية مرارا وتكرار، تستيقظ أكثر من مرة فى الليل ويهجرها النوم.

هاجمتها طبقات الثلج فى الظهر فى سن صغير، وبمرور السنوات زحف الثلح سريعا بين كل الأوردة وبنى بيوتا ممتدة تشبه بيوت الإسكيمو، الآن تأكد لها أنها لم تكن يوما إمرأة موسمية بحضوره، والآن هى إمراة موسمية بغيابه، تتقلب فى الفصول ويمنحها الخريف اكتئابا نادرا، أما الشتاء فيضرب فى قلبها الرعب، ففيه فقدت أبيها عند الفجر، وظلت المسافة التى قطعتها بين بيتها وبيت جدتها للاستقرارفيها بعيدا عن الصراخ قاتلة وطويلة ومثقلة تشبة الرحلة إلى الجحيم.

الشهر يمر، ويحمل معه كل تقلبات المواسم ففيه تشعر بالصيف والشتاء والخريف، ويتبقى فقط أسبوعا واحدا يتسلل الربيع إليها، الأسبوع الذى تحلم فيه بأبيها يساعدها ملمس يديه أن يبقيها سعيدة لفترة وجيزة للغاية، بعدها يختفى وجهه عن أحلامها بقية الشهر، احتارت كثيرا فى تلك الحالة، فى البداية اعتبرته مرضا ألم بها، وفتشت عن مسماه فى كتب العلاج النفسي، ووجدت عنوانا يناسب وصف تلك الحالة ” مرض ثنائية القطب المزاجى” يصيب صاحبه بالتقلب الدائم بين الفرح الشديد والحزن الكبير.

شعرت بالراحة وهى تقلب فى سير المبدعات وتجد من يشبهنها فى تلك الحالة،  توحدت مع الشاعرة الأمريكية “سلفيا بلاث” ولكنها عاهدت نفسها ألا تقدم على الانتحار مثلها كنوع من الخلاص، لأنها عنيدة لا تحب الاستسلام، كما أنها تخاف على أمها.

احتارت فى هذا التقلب، وقاومته كثيرا، لكنها وجدت أن البحث عن سبل للتكيف مع الحالة سيساعدها فى الشفاء، التقطت قلما، وكتبت كل أيام الشهر، وحددت بدقة الأيام التى تتوهج فيها مع القمر، والأيام التى تتعذب فيها روحها، حتى فى علاقتها مع المحب بدأت فى رسم خريطة بمواقيت التقلب، للابتعاد عنه، فالرب وحده هو الذى يستطيع تفهم العذابات التى تمربها فى تلك الأيام، تنسحب من الصداقات والأقارب والأحبة مثلما تبدل الحية جلدها تماما، وتؤمن أن عليها الاختفاء بعيدا عن الجميع لترميهم  فى خيبة البحث الكامل عنها.

تشعر بالحرارة الشديدة والبرودة فى آن واحد، دون هدنة، تتذكر مرة أنها ظلت لعشر أيام ترفض فتح الباب لجارتها، حتى ظنت الآخيرة أنها ماتت، فهاتفت أمها بعد محاولات يائسة للاطمئنان عليها، وتحول القلق لثورة عنيفة قادتها والدتها على جنونها.

فى لحظات معينة تحب أن تجرب متعة الهروب من الجميع، حتى من أقرب الناس إليها، ترفض الثرثرة، ويشكل لها الضجيج موتا كاملا بالداخل، وفى تلك اللحظات يصبح صوت ملعقة ضاربة فى فنجان قهوة عبئا كبيرا عليها، تصمت كثيرا وترفض التحدث، تكف عن الشكوى تماما وتكون مستأنسة بشكل كامل فى حالة الهدوء الشديد.

يسقط أصدقاء كثيرون فى رحلة المواسم، تتوه فى الشوارع، وتنسى كثيرا المواعيد والأرقام وأسماء الأيام، يصيبها عطب التذكرٍ، وتشعر أن ذاكرتها كذاكرة السمكة، فى لحظات كثيرة تستيقظ فى الصباح،  وتجد صعوبة شديدة فى تذكر اسمها، يهيمن النسيان على كل تحركاتها، تفتح الثلاجة أكثر من مرة دون أن تقبض على ما تريده، حقا يصبح الوجود الإنساني عبئا كبيرا تحاول الهروب منه بالرقص،  فلا تفلح في إزاحته.

تهرب أحيانا بالنوم، تحلم بأنها تسقط من بناية شاهقة، وترتطم بالأرض بقوة، فتستيقظ من النوم سريعا، وتظل تنظرلكل شئ فى الغرفة بهلع شديد، تهرع لمحفظتها الخاصة وتلتقط صورة أبيها، تضعها بجانبها على وسادة النوم وتتربع، وتلتقط أجندة الذكريات، وتظل تكتب بأصابع هاربة وسريعة: ” أعيدوا لى أبى ..أعيدولى لى أبى..أعيدوا لى أبى “،  أكثر من مرة،  فتشعر بكثير من الراحة وتهدأ قليلا ثم تعيد رحلتها نحو المواسم .

إسراء عبد التواب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى