ثقافه وفنون

قصة قصيرة خريف دائم – تكتبها .. فيفي جابر

فتحت عينيها من نوم رتيب ، تتلمس رؤية غابشه ، نهار معتم جديد ..فشلت مجددا في الصحو مبكرا.. عمدت الفشل ، فليس لديها طموح يرغمها على الصحو المبكر. . التقطت عدساتها الزجاجية ووضعتها عبثا ، ظلت الرؤية غابشه ، بينما تلاشى أثر دوار الرأس المصاحب لعدم ارتداؤهما. أخذت تفكر في شئ يجذبها خارج الفراش ، تسرب مذاق النهار المعتم من الفراغات الأفقية للنافذة المغلقة ، ووضع بصمته في نفسها ، جثم بثقله على صدرها ، أصابها بركودا إضافيا ، عبثا كانت تبحث عن فكرة تعينها على الانتفاض من تابوتها .. خطر لها نفس السؤال الذى اعتادت طرحه على نفسها يوميا : من أنا ؟

من هذه المرأة التى أصبحت عليها؟ وأين تلك التى غادرتنى ؟ ترامى إليها أصوات غناء الطيور قادم عبر تشققات النافذة ، نفذ فيها عبر تشققات روحها ، أعاد إليها بصيص من الشعور ، كانت تحدق في الجدار القائم بينها وبين العالم الخارجى لغرفتها الضيقة.. شردت مرة أخرى في التفكير باستبدال الحاجز الخرسانى بأخر زجاجى يتيح لها مزيدا من الضوء ويضعها بجدية ضمن إيقاع الحياة . فكرة الجدار الزجاجى تروادها منذ عشرة أعوام تقريبا . انتقلت للتفكير في بقية التساؤلات :

لماذا أعيش ؟ وماذا أنتظر ؟ اعتدلت في مجلسها بالفراش وعينيها تسترق النظرات إلى مجموعة الأدوية المبعثرة على الكوميدينو المجاور لفراشها ، مسكنات العظام وأدوية تنشيط الذاكرة والدورة الدموية ، وفيتامين العين.. شعرت بحاجتها فى تعاطى دواء الضغط ..

ولكن كان عليها تناول الافطار أولا.. غادرت فراشها بجسد مثقل بالوحدة ، وسعت لبدء يومها الأجوف الجديد.. في طريقها لمغادرة الحجرة توقفت أمام مكتبها الصغير المحاذى للنافذة البائسة ، تجمدت أمام قصاصات الورق الملقاة فوق بعضها البعض وتبدو في حالة انتحار..

أمسكت بالقصاصة الأولى بيدها اليسرى ودفعت بيدها اليمنى النافذة لتسمح بنفاذ ضوء النهار المحتضر ، أتاحت الزاوية الحادة التى أفرجت عنها النافذة صورة مقتضبه للأشجار الشامخة بوهن في حديقة الطابق الأرضى ، شجرة المانجو التى تأتى بثمار عقيمة لا مذاق لها وكذلك شجرة الجوافة ، وهيكل شجرة الميلاد التى فقدت رونقها بمرور الوقت ، وشجيرات أخرى متراميه بين جذوع هؤلاء التعيسات.. الصورة التى أصبحت تتفادى لمحها بعد أن كانت في السابق مشهد يوحى لها بالانتشاء ويبث فيها الشعور بالفرح وربما كان هذا سبب استغراقها التفكير في استبدال الجدار تعمدت تفاديها اليوم أيضا .. ثلاثة سطور جاهدت طوال ليلتها لتكتبها ، وهى في الأصل كانت محاولة لإنهاء مأساتها بعدم قدرتها على كتابة شئ جديد..

الحياة ضرب من السخف #الحب صفقة غير عادلة دائما #الصداقة زورق نجاة يجتاز الإعصار أحيانا أخذت تقرأ بعينان متفحصتان ما كتبته بتمزق ، فبدا لها شعور غريب ، استنتاجان متضاربان ، اعجابها وعدم رضاها.. أطلقت سراح القصاصة لتسقط فوق شقيقاتها لتسرسل في انتحارها. ومضت في طريقها بأقدام هزيلة ، نحو ممارسة روتينها اليومى فرغ المنزل من ساكنيه على مضض، الأب أولا ثم الأم بعده بثلاثة أعوام..

كانت قد أصبحت في السابعة والثلاثين حينذاك ، وداهمتها الأم الجسد وضعف الابصار ، ورفضت أن ترضخ للعيش في إطار حياة أى من أشقائها الأربعة ، وحررتهم من مسؤلية عبئها لايمانها بأن لكل منهم هاويته التى يفضل الهلاك بها كانت هاويتها تتضمن حياة الفنانين ، وأشقائها يفتقرون إلى حس الفن ، ما كانت لتحتمل أيامهم الواقعية الخالية من روح الفن ولو ليوما واحدا.. وعاشت في بيت الأسرة بمفردها مكتفية بعروجهم عليها فرادى كلما أتاحت لهم الظروف..

تبنت طفل من أبناء أحد أشقائها ليكون ابنها الروحى ، ولم تجد في البقيه من يستحق لديها هذه المكانه .اكتفت بولد واحد ، لو كانت قد تزوجت الرجل الذى أغرمت به وأنجبت لاكتفت بواحد أيضا..لكنه الأن بعيد في بلاد الغربة ، تمارس أمومتها معه عبر الاسكايب والمكالمات المرئية، الأن أصبح صبيا في التاسعة ، مرت ثلاثة أعوام على أخر عناق بينهم ، وأخر مرة اشتمت فيها عطر جسده ومداعبة وجنتاه وسرد حكايات قبل النوم.. الاسكايب يقرب المسافات ، لكنه لا يمحيها ..! وقفت أمام الموقد لتصنع قهوة ، حضرت بعض الأطعمة في أطباق صغيرة ، جبنه ومربى وزيتون ، وضعتهم ضمن صينيه تكفي لجميعهم ، لم تنس الخبز ، الذى أوشك على النفاذ الأن عليها الخروج لابتياع بعض المستلزمات..

زفرت وهى تضيف المهمة الثقيلة في دفتر أعمالها .. انتهت من صنع القهوة ، أفرغتها في كوب ووضعتها ضمن الصينية وحملتها وعادت إلى حجرتها مجددا .. هجرت ما تبقى من المنزل ما عدا المساحة التى تشمل حجرتها والمطبخ ودورة المياة..كانت حجرتها بمثابة منزل منفصل ، تكتفي بالعيش ضمن إطارها ، لكنها كانت تضطر لزيارة بقية المنزل عندما يستلزم منها تنظيفة..

وضعت الصينيه على جانب من الفراش وأشعلت الضوء ، فتوفر لها رؤية أكثر وضوحا..التقطت الحاسوب اللوحى وراحت تعبث به ، كانت محدقة في شاشته ذات السبعة انشات ، تتفقد حياتها الافتراضية التى توفر لها نبض موازى للحياة.. على موقع التواصل الاجتماعى الأكثر شهرة وأكثر رواجا.. على الصفحة الرئيسية بعض الأخبار استرعت انتباهها فأرجأت قرائتها إلى ما بعد تناول أدويتها ..وإشارات برسالتين وتنبيهات بدعوات صداقة جديدة ، هى لا تقبل أصدقاء جدد إلا نادرا ، فقط هؤلاء من يشاركوها نفس اهتمامها بالأدب ..البقية يمكنهم متابعتها إن أرادوا..

هذا العالم الافتراضى الذى اتخذت لنفسها بقعة فيه منذ أكثر من عشرة أعوام أصبح المتنفس والمنفذ وبرج المراقبه والمنصة التى تعتليها كلما شعرت برغبة في الحديث..رغم تخطيها العقد الرابع بعامين ، لازالت أرواح هؤلاء الشباب وحرارة دمائهم النافرة وعنفوانهم وتمردهم تمنحها يقين بشبابها ، هى التى مارست تمردها ونفورها حينما كانت في أول الطريق قبلهم..

من خلال هذا العالم ، دنت من القمه ، كتبت ولاقت كتابتها اعجاب المهتمين ونالت شهادات معنويه عن تفرد موهبتها ، صاحت وغنت ورقصت وتقاسمت أفكارها ومشاعرها ، هى لا تنس ذكرياتها التى جمعتها خلال تلك الأعوام ولن تنس ، ولن تنس الأصدقاء أو بالأحرى صديقيها اللذان التقت بهم في بداية الرحله ، وشاركوها بعضها ، البدايات الشهيه التى عمرت بليالى السمر وأمسيات السحر ، وأحاديث الحب والجمال وأحيانا البكاء.. كانوا يصغرنها بأعوام ثلاثة ، لكنها كانت تشعر دائما أنها منهم ، أو كأنهم أوليائها ، لشدة ما شعرت بتماس أرواحهم..

أحدهم كان بمثابه الصديق الأب ، والأخر كان شقيق روحها ، هكذا اكتمل عالمها الافتراضى بهم ، ودوما آمنت أنهم رغم عدم لقائهم ، أنهم حقيقيين لدرجة تضاهى الواقع .

بينما كانت ممتنه لوجودهم في عالمها وتكتفي بهم رفقة ، فرقتهم الحياة بحيلها وقسوتها واحدا تلو الأخر.. كان الواقع الذى عاشت ضمنه في إطار العائلة يتداعى ، وأشقائها يتلاشى حضورهم بالتوالى ، كانت تشعر بالاغتراب في وجودهم وعدم وجودهم ، ووالديها مستغرقين في هموم أعمارهم ، تصل بينهم فجوة بعمق وادى .. دفعها الواقع الرتيب للبحث عن صخب في عمل ما ، سرعان ما اندمجت فيه ، فاضت كصبية في عمر المراهقة ، نسيت سنواتها التى تخطت الثلاثين ، كانت التجربة أشبه برحلة إلى مدينه الملاهى ، لم تستشعر الخطر رغم دنوها منه ولم تنشغل بعقد حزام الأمان ، فنالت في كل مرة دمارا يستحق التقدير..

تعلمت أن العالم الذى تنتمى إليه روحها لا يمت للواقع بصلة..كان مازال أمامها المزيد من الحقائق لم تتعلمها بعد.. تخطت تلك الألام عندما أغرمت بأحدهم ، لكنها لم تتوقع أن يكون هذا الحب تتمة دروس الحياة عن الكذب والاحتيال.. ابتعدت عن ذلك الواقع بقناعات جديدة ، منها أن العالم ليس بحيرة سلام كما كانت تعتقد في السابق.. غمرت نفسها بعزلتها في غرفتها ، لزمها وقت طويل لاستعادة نفسها من جديد ، عامان ..

خلال ذلك فقدت والديها ، وفنى حضور أشقائها ، حتى وجدت نفسها ذات يوم ضمن الشعور باليتم .. تسرب كل شئ من بين أناملها ، الرفقه والعائلة والحب واليقين بروعة الحياة.. كانت تمر أيام لا ينطلق صوتها بكلمة ، وأسابيع لا تطأ أقدامها أسفلت الشارع . مرت المواسم تباعا تطوى سنوات عمرها التالية .. كان لها رجاء وحيد لم تتخلى عنه ، هو استعادة صديقيها .. كانت دوما تتسائل عن أوضاعهما وشكل حياتهما ، كانت تراقب تطور حياتهما باستمرار ، بحنين إلى الأيام الخوالى.. حبهم وزواجهم وأبوتهم ، نضوجهم ..

دون أن تستطيع الاقتراب من أحدهم ، دون أن يسمح لها بمشاركتهم مشاعرهم بالفرح أو الغضب أو الحزن أو الحيرة أو السلام.. ..دون أن يمكنها أن تباركهم في أعياد ميلادهم أو الأعياد. لامتهم في صمت على ابتعادهم وتخليهم عن رفقتها رغم ما كانت عليه رفقتهم.. إلى أن جاء يوم استعادت فيه صديقها الأب ، كانت سعادتها باستعادته أشبه بالحلم ، الحلم الذى كانت قد اقتربت من تخليها عنه ، لكنه تحقق في اللحظة ما قبل الأخيرة.. حاولت أن تعوض معه بعض مما فاتهم ، دون الإلتفات إلى الحزن على سنوات القطيعة ، بينما رسائلها إلى صديقها الأخر على مدار السنوات لا تلقى ردا ، اكتفت بالعائد وقررت أن تكمل به القادم.. تناولت لقمة من الجبن وأخرجت حبة الدواء وجرعتها بالقليل من الماء ، لمست بإصعها فوق إشارات الأصدقاء الجدد ، ارتجف كيانها وقلبها كما لو ضربتها صاعقه ، حينما رأت دعوة من صديقها الأخر..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى