السياسة

عجلة التاريخ الأوروبي قد تعود للوراء

ربما كانت عجلة التاريخ الأوروبي بسبيلها للدوران للخلف.

فإذا اختار البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي فستكون تلك على الأرجح بداية عملية تفتت للهياكل السياسية والأمنية التي بني عليها النظام الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.

وحتى إذا قرر البريطانيون البقاء في الاتحاد فلن يتبدد قريبا ما تمخض عنه النقاش وتنامي اتجاه تنظيم الاستفتاءات على المستوى الوطني في قضايا تخص الاتحاد الأوروبي ورد الفعل العكسي المناهض للعولمة ولدول النخبة الصناعية على جانبي الأطلسي.

ولا أحد يعرف مدى انتشار العدوى وسرعتها في حالة التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد. لكن من غير المتوقع أن يتوقف الأمر عند خروج دولة كبرى واحدة.

وقد كان دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي – وهو مؤرخ ورئيس سابق لوزراء بولندا شارك في الكفاح لإسقاط الحكم الشيوعي الذي فرضه السوفيت في شرق أوروبا وانضم فيما بعد للاتحاد الأوروبي – شاهدا على ذلك التاريخ ومشاركا فيه.

وحذر توسك الأسبوع الماضي من أن “خروج بريطانيا قد يكون بداية لتدمير لا الاتحاد الأوروبي وحده بل الحضارة السياسية الغربية بأسرها.”

كما أنه يدرك بنفس القدر أنه إذا نجح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في استمالة الرأي العام في الأيام الأخيرة والفوز في الاستفتاء فإن ما استخدمه من أساليب في المطالبة بإعادة التفاوض على شروط العضوية في الاتحاد الأوروبي واستخدام الاستفتاء كوسيلة ضغط سيغري بالتأكيد الساسة في دول أخرى.

وفي اللقاءات الخاصة تظهر مشاعر غضب من كاميرون بين قيادات الاتحاد الأوروبي ودبلوماسييه التي تشعر أنه قامر على مستقبل أوروبا في محاولة فاشلة لإنهاء “حرب أهلية” في حزبه.

وفي حال خروج بريطانيا ستسعى ألمانيا وفرنسا اللتان شاركتا في تأسيس الاتحاد لتدعيم ما تبقى منه وطرح مشاريع جديدة في مجال الأمن والدفاع. لكن عدم اتفاقهما على أسلوب تدعيم منطقة اليورو وكذلك احتمال فوز أصحاب المواقف الشعبوية المناهضين للاتحاد الأوروبي في الانتخابات بهاتين الدولتين في العام المقبل قد يجعل من المستحيل طرح أي مبادرة كبرى لتحقيق التكامل.

*هل يفوز الشعبويون؟

وتتزايد قوى التفتت الأوروبي في كثير من الدول بفعل الاستياء من الأداء الاقتصادي والمخاوف من فقدان الوظائف لصالح المنافسة الخارجية أو المهاجرين بالإضافة إلى القلق من ارتفاع نسبة كبار السن في المجتمعات.

وفي هولندا أرغم المشككون في الوحدة الأوروبية السلطات على إجراء استفتاء في أبريل نيسان على اتفاق للاتحاد الأوروبي يقضي بتوثيق العلاقات مع أوكرانيا وحشدوا ما يكفي من الأصوات لكي تخرج النتيجة برفض الاتفاق الأمر الذي خلق مشكلة قانونية عويصة لسلطات هولندا والاتحاد الأوروبي.

ويخطط فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي يتباهي بأنه أقام “ديمقراطية غير ليبرالية” لإجراء استفتاء عام في أكتوبر تشرين الأول لتحدي قواعد الاتحاد الأوروبي التي تلزم الدول الأعضاء باقتسام عبء استقبال اللاجئين المتدفقين على اليونان وإيطاليا.

وفشل يميني من المشككين في الوحدة الأوروبية بفارق بسيط في الفوز في انتخابات الرئاسة في النمسا الشهر الماضي مستفيدا من موجة العداء للمهاجرين وتحدي سلطة بروكسل.

ويبين أحدث مسح أجراه مركز أبحاث بيو للاتجاهات الأوروبية أن التأييد الشعبي للاتحاد انخفض بشدة في مختلف أنحاء أوروبا وكان أكبر هبوط في فرنسا حيث أيد الاتحاد 38 في المئة فقط من المشاركين أي أقل بست نقاط عنه في بريطانيا.

ولا تشير تلك النتائج بالضرورة إلى أن دولا أخرى قد تنسحب من الاتحاد. ومن المفارقات أن التأييد للاتحاد الأوروبي أقوى في بولندا والمجر منه في أي دولة أخرى. والبلدان من كبار المستفيدين ماليا من بروكسل لكن حكومتيهما من أشد الحكومات الأوروبية تشككا في الوحدة الأوروبية.

لكن العداء الشعبي للمشاركة في المخاطر – سواء المالية أو الإنسانية أو الجيوسياسية – ازداد قوة في أوروبا حتى قبل الاستفتاء البريطاني ووسع الفجوات بين الشمال والجنوب والشرق والغرب داخل الاتحاد الأوروبي.

وقالت هيذر جراب الزميلة الزائرة بالجامعة الأوروبية في فلورنسا “بشكل ما من الأشكال حقق الشعبويون الفوز لأنهم يحددون جدول الأعمال للأطراف الرئيسية.”

ومن أبرز المنزعجين من ذلك المسؤولون عن رسم الاستراتيجيات في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي المقتنعون بأن تصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي سيضعف وحدة الغرب وعزمه على التصدي للتحديات الأمنية.

ومن هذه التحديات تعاظم الدور الروسي وتيار التشدد الإسلامي والحرب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي أدت إلى هجرة الملايين وكذلك ضغوط الهجرة في أفريقيا جنوبي الصحراء والهجمات الإلكترونية على الشبكات الاقتصادية والأمنية.

ولفترة طويلة ظلت لندن شريك واشنطن في الدفاع والاستخبارات لكنها ازدادت عزوفا عن المشاركة في العمل العسكري منذ الحربين اللتين قادتهما الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وما صاحبهما من مواقف شعبية مناوئة.

ويواجه حلف شمال الأطلسي صعوبات اليوم في العثور على دول أوروبية على استعداد لنشر أعداد متواضعة من القوات بالتبادل لدعم حلفاء في دول البلطيق وشرق أوروبا يشعرون بالانزعاج من استيلاء روسيا عام 2014 على شبه جزيرة القرم ودعم المتمردين المؤيدين لروسيا في شرق أوكرانيا.

ويقول بعض المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد إن الاتحاد هو “قصة الأمس” وإن الخروج منه سيتيح لبريطانيا أن تكون أكثر عالمية.

ومع ذلك فالتصويت بالخروج سيدفع الاتحاد الأوروبي بعيدا عن مساره عدة أعوام في مناقشات مثيرة للشقاق حول شروط انفصال بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد وقوة عسكرية في الاتحاد.

وسيجعل الخروج بريطانيا أكثر انغلاقا وسيدفع الحزبين السياسيين الرئيسيين إلى تبادل الاتهامات وإلى التركيز على إغلاق الحدود.

وقال ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة ومخطط السياسات السابق بوزارة الخارجية الأمريكية إن “مشروع البناء الأوروبي الذي بدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي أنجز الكثير لضمان ألا تصبح أوروبا مرة أخرى ساحة لعدم الاستقرار والعنف سيتعرض لمزيد من الخطر.”

وكتب هاس في مجلة ذي أمريكان انترست يقول إن أوروبا التي انطلقت منها شرارة حربين عالميين قد أصبحت “مملة” بعد انتهاء الحرب الباردة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى