الروائي الكبير محمد جبريل يكتب : الجنائية الدولية.. وحصاد الدمار!

القرارات التي عرضت على مجلس الأمن لمناصرة الحق العربي اصتدمت بالفيتو الأمريكي

قتل الفلسطينيين وتهجيرهم، وتفريغ المدن والقرى الفلسطينية من أبنائها، هدف أول للدولة الصهيونية

قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتبار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووزير حربه المقال جالنت مجرمي حرب، لم يكن وليد ذاته ولا مصادفة. إنه محصلة أشهر طويلة من حرب بشعة، تستهدف التدمير والإفناء والمحو.

أستأذنك في أن أستعيد فقرات، عرضت فيها – على مدى تلك الأشهر – بعضًا من توالي المذابح، وصولًا إلى القرار الحتمي من المحكمة الجنائية الدولية:

– حين يدين البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وجوتيريش الأمين العام للأمم المتحد، وعشرات الشخصيات ذات التأثير في أرجاء العالم.. حين يدين كل هؤلاء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد المواطنين الفلسطينيين العزل في قطاع غزة، فإن القول بأن العالم كله يقف إلى جانب إسرائيل في عملية طوفان الأقصى، وما تلاها، من إعلان قادة الكيان الصهيوني عن خطوات تستهدف الإبادة الجماعية للمواطنين الفلسطينيين في غزة، هذا القول يحتاج إلى مراجعة.

– إذا أقدمت الحكومة الإسرائيلية على عمليات تدمير، أو تصفية جسدية، معظم ضحاياها من المواطنين العزل، فإن الولايات المتحدة تدعو إلى ضبط النفس. المعنى أن يمسك الفلسطينيون أنفسهم عن مجرد التفكير في ردود أفعال من أي نوع. أما إذا حدث رد الفعل بتأثير توالي عمليات التدمير والاغتيال الإسرائيلي، فإن الولايات المتحدة تستنكر، وتدين.

– قتل الفلسطينيين وتهجيرهم، وتفريغ المدن والقرى الفلسطينية من أبنائها، هدف أول للدولة الصهيونية، وهي قد سعت إلى ذلك من قبل إعلان قيام الدولة. مسلسل القتل اليومي لأبناء الشعب الفلسطيني جزء من مخطط إسرائيلي لمنع الخطر المتوقع بغلبة العنصر العربي – المسيحي والمسلم – في أفق المستقبل.

– القول بأن إسرائيل تسعى إلى تحقيق مكاسب إضافية قبل الوصول إلى السلام الشامل.. هذا القول ينطوي على قدر كبير من عدم الفهم، أو السذاجة، لأن الهدف الاستراتيجي للقادة الصهاينة هو محو الفلسطينيين من خريطة العالم، أو – في الأقل- تحويلهم إلى جماعات مشابهة لجماعات الهنود، في أعقاب استيلاء الأوروبيين على بلادهم.

– القراءة المتأملة تبين عن تناقضات كثيرة في العملية السلمية بين العرب وإسرائيل، أولاها أن أصحاب الأرض يظلون في المنافي، أو يعودون وفق شروط أقرب إلى المستحيل. عودة الفسطينيين أخطر العقبات في جدول المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية، بينما كل الأبواب تفتح أمام المستوطنين. أنت يهودي فمن حقك أن تحيا في إسرائيل، لا شأن لذلك بالوطن الذي أتيت منه. الفلسطيني لا يعرف له موطنًا ولا وطنًا إلّا فلسطين. أما اليهودي فهو وافد من روسيا أو بولندة أو الولايات المتحدة، أو غيرها من دول العالم.

– التوحد بالمعتدي تكوين في الشخصية الإسرائييلية، حتى اختراعهم الأكاذيب، وإرغام العالم على القبول بها، يذكرني بقول جوبلز وزير إعلام هتلر: اكذب، اكذب حتى يصدقك الآخرون، هم لا يكتفون بمحاولات الإقناع، بالإلحاح على محاولات الإقناع، لكنهم يرغمونك على التصديق، وسيلتهم الابتزاز المتمثل في دعاوى أسطورية لا موضع لمناقشتها، عنوانها العداء للسامية، وهو ادعاء يلغيه – بالنسبة للعرب في الأقل – أنهم ساميون!

– اخطر ما في السياسة الأمريكية أن مجالاتها السلبية تتسع، بداية من استخدام الفيتو في مجلس الأمن، وامتدادًا في استغلال هيمنتها على حلف الناتو، فالقراءات تصدر بالأهواء والتآمر والرغبة في فرض الوصاية، وليس وفق ما تمليه الاعتبارات الإنسانية والقانونية على مستوى العالم، آخرها فيتو المندوب الأمريكي في مجلس الأمن ضد قرار بإيقاف الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، لأسباب إنسانية، تزامنًا مع دعوة وزير الخارجية بلينكن دول العالم إلى احترام حقوق الإنسان، ومكالبته – في الوقت نفسه – بأن تواصل القوات الإسرائيلية تدميرها للحياة في غزة، وفي ما تبقى من أرض فلسطين، وتمنيه ألًا يتجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين حدًا أعلى!

– المقاومة حق للشعوب التي تناضل ضد الاحتلال الأجنبي. مغ ذلك فإن المقاومة في الوطن العربي، وفلسطين بخاصة، تتهم بالتطرف، وصولًا إلى الإرهاب. لماذا صار الإرهاب مرادفًا لمفهوم المقاومة في تقدير الولايات المتحدة وإسرائيل؟. على حد تعبير إدوار سعيد فأنت ضد السياسة الأمريكية، إذن فأنت إرهابي. أنت ضد تدخلات واشنطن ضد مصالح الشعوب، إذن فأنت إرهابي. متى نعتبر القاتل مناضلًا، ومتى نعتبره إرهابيا؟ بماذا نسمي قتل العلماء العرب والمسلمين في مدن العالم، وقتل الساسة والمفكرين والأدباء، أليس إرهابًا ( هل كان غسان كتفاني وناجي العلي إرهابيين؟ ). لماذا يقتصر الإرهاب على التنظيمات الفلسطينية؟ لماذا لا تشمل التسمية قادة الكيان الصهيوني؟

– ما عدا الدول الخمس الدائمة العضوية – الولايات المتحدة تحديدًا – فإن المسودات لتي يقترع مجلس الأمن عليها تظل بلا قيمة إن رفع المندوب الأمريكي يده بالاعتراض. لكي أزيد الأمر وضوحًا فمنذ أعلنت واشنطن اعترافها بالدولة العبرية، بعد إعلان قيامها بخمس دقائق، صدرت عشرات القرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنها ظلت حبيسة ملفات المنظمة الدولية. كما اصطدمت القرارات التي عرضت على مجلس الأمن لمناصرة الحق العربي بالفيتو الأمريكي، يقضي على كل المحاولات التي استهدفت إدانة إسرائيل.

– المساحة التي يفترض أنها خاضعة للسلطة الفلسطينية لا تزيد عن 18% تتخلل المستوطنات الإسرائيلية مدنها وقراها، ويقتحمها جيش الحرب الإسرائيلي، تعتقل، وتقتل، وتدمر. حتى رئيس السلطة الفلسطينية تصله في مكتبه برام الله أصوات المجازر التي صارت جزءًا من الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، سواء في ما اصطلح على تسميته بمناطق ما قبل 1948، أو نصت عيه اتفاقية أوسلو كنواة للدولة الفلسطينية.

– طبيعي أن أي كيان استيطاني يواجه بمقاومة شديدة من السكان الأصليين. إنه يريد الإحلال وليس الحيرة، طرد أبناء البلاد والعيش بدلًا منهم. ذلك ما حدث في بلاد كثيرة على مدى التاريخ، وأقرب إلى الأذهان ما حدث في جنوب إفريقيا وروديسيا( موزمبيق) وغيرها، وهو ما يحدث الآن في فلسطين.

– أفرزت لنكبة الفلسطينية مئات الألوف من المهجرين والمشردين والمنفيين، سكنوا الخيام في الأقطار العربية المجاورة، أو وصلوا إلى بلاد الله خلق الله، يطلبون استكمال حياتهم، فرارًا من المحو الذي جعل منه الكيان الصهيوني شعارًا لسياسته الداعية إلى عبرية الدولة الفلسطينية، بعد التخلص من أبنائها الأصليين. لم تكن القضية – منذ بدايتها – قضية فلسطين، لكنها قضية الغزوة الصهيونية المدعومة بالاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية، فلسطين وسوريا ولبنان والأردن والعراق والسعودية وغيرها من أقطار المنطقة التي مازال بعضها يتصور – للأسف – أنه في منأى عن تطورات الصراع، ونتائجه المحتملة.

– اعتدنا في تاريخ الممارسات الإسرائيلية أنها تطلب تصديق الآخرين لما اختلقته، ساعدها إعلام أيديولوجي، يحذف، يضيف، يضفي الرتوش، وربما بدل الملامح. فإذا طرحت الرواية الصحيحة، قوبلت بالتعتيم، أو بالرفض، أو التشويه. ذلك ما نلحظه حتى في تضاد الروايات، فإسرائيل الجزيرة المسالمة المحاطة ببحر من العداء، هي إسرائيل صاحبة اليد الطولى التي قتلت قادة المقاومة في فلسطين ولبنان وتونس، وهي التي تجاهر أن القتل جزء من ممارساتها، تساندها واشنطن وعواصم الغرب بصورة مطلقة، إلى حد سحب الولايات المتحدة مقترحاتها لحل مشكلة الرهائن الإسرائيليين، واستبدلت بها مقترحات إسرائيلية، أعلن المعارضون لنتنياهو أنها تستهدف إفشال المفاوضات كسبب يتصل بمصالحه الضيقة.

– مضت أشهر على تحرك المقاومة ضد الوجود الاحتلالي الصهيوني، توضحت خلالها حقائق كثيرة، أهمها زيف الدعاوى الإسرائيلية عن ممارسات المقاومة. إن صراع الوجود يخوضه الشعب الفلسطيني في غزة، وفي الضفة الغربية، دفاعًا عن أرضه وحريته ووجوده. أما استعانة الكيان بمرتزقة من دول أخرى لمحاربة الفلسطينيين، فذلك أبعد ما يكون عن تسمية صراع وجود. إنه صراع بين أصحاب الأرض، ومن يستولي عليهاـ، فضلًا عن المرتزقة الذين يشاركون في الوجود الاحتىلالي.

– لم تكن انتفاضة السابع من أكتوبر عبثية، كما ادعت بعض الأقلام. إنها العامل المباشر في تحريك القضية الفلسطينية، وزيادة أعداد المؤيدين لحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، وفي قرار مجلس الأمن المماثل الذي أجهضته عقلية أمريكية استعمارية متحجرة، وفي قرار محكمة العدل الدولية بإيقاف الحرب الصهيونية ضد قطاع غزة، وإعلان المحكمة الدولية نتنياهو وجالنت مطلوبين للعدالة، ثم في المظاهرات التي شملت أرجاء العالم. حتى في المدن والجامعات الأمريكية، وتوالي اعترافات دول أوروبية بسيادة الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة.

– يغيظني قول البعض من العرب الأمريكان أنهم سيعطون أصواتهم لترامب بدلًا من بايدن. يردفون إلى دهشتك المتسائلة، نحن تعلم أن ترامب له علاقة أشد توثقًا باللوبي الصهيوني، وبدولة إسرائيل، لكن بايدن لم يف بتعهداته معنا، ومن المهم أن نعاقبه. والحق أن العقاب الذي يتحدث عنه الناقمون على بايدن، هو مكافأة لأحد صنائع الصهيونية العالمية. وإذا كان انتخابه من باب الكيد للمرشح المنافس، فإن سلبية النتائج ستشمل نتائج الانتخابات مطلقًا.

– تنسب واشنطن إلى نفسها صفة الوسيط بين سلطة الاحتلال الصهيوني والفلسطينيين، وتصدر عن مسئوليها تصريحات تطالب بإيقاف الحرب في غزة، وفي ضرورة تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، في المقابل فإن ترسانة السلاح الأمريكي تزود الجيش الإسرائيلي بكل احتياجاته، أو ما يعلن نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي في حاجة إليه، حتى القنابل الهائلة التي تعترف واشنطن بتأثيرها المدمر إن سقطت – وهذا ما يحدث – فوق المناطق السكنية، تتخذ الرئاسة الأمريكية قرارًا برفع حظر إرسالها إلى الجيش الإسرائيلي.

– إسرائيل كيان غربي، زرع في المنطقة العربية لا لمجرد أن يبقى، وإنما لكي يتوسع ويفرض السيطرة على المقدرات والمصائر، تسانده دعاوى وحجج، تبدأ بالأساطير، وتنتهي بالمزاعم الباطلة.

هذه – كما أشرت – فقرات من مقالات مطولة، كثيرة، تكوينات متجاورة، متداخلة، صنعت المشهد المأساوي الذي يصعب أن يقتصر فيه الاتهام على مجرمي الحرب نتنياهو وجالنت. ثمة من أيد وساند، وتآمر، وشارك في الفعل، بحيث تقتضي العدالة أن يمثل الجميع أمام محكمة العدل الدولية.

عن المساء القاهرية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى