الأقتصاد

بولندا لن تتخلص بسهولة من الفحم رغم التلوث الذي يقضي على 50 ألف شخص سنوياً فيها

في وادي ليبريتس بجمهورية التشيك تقع قرية فيتكوف بطبيعتها الخلابة. الحياة فيها تبدو هادئة بنظر بعض السكان. لكن منذ فترة، بدأ القلق يخيم عليهم.

ماريا بلاروفا، مديرة مدرسة روضة في القرية، بدأت تحدثنا عن التغيرات التي طرأت على قريتها. وأخبرتنا، وهي تشير الى ساقية قريبة، أنه في الماضي “كان ارتفاع الماء فيها يصل إلى نحو متر. لكن منذ عام انخفض بشكل كبير، وجفّ الجدول تقريباً بالكامل”.

أصابع الاتهام موجهة صوب الاحتباس الحراري، لكن هنالك سبب آخر وهو مَنجم فحم اللينيت في قرية توروف البولندية عند التلة المقابلة لقرية فيتكوف. فالمَنجم الموجود هناك، يستهلك الكثير من الماء ويهدد المياه الجوفية للمنطقة وليس فقط لقرية فيتكوف حيث كان لابد لهم من زيادة عمقِ البئر الموجودة قرب المدرسة، للحصول على مياه للشُرب.

كارل ريهاك، أحد سكان هذه القرية تحدث عن مشكلة هامة وهي أنه “ليس بوسعِ الجميعِ تحمُّلُ عبءِ أعمال الحفر. وإذا لم يجدْ السكانُ الماءَ سيغادرون وستموت المنطقة”.

منجم توروف ومحطته الحرارية وتلوث البيئة
نغادر فيتكوف التشيكية لنتوجه الى غرب بولندا، حيث مدينة بوغاتينيا المجاورة لمَنجم توروف ومحطته الحرارية.

بوغاتينيا مدينة مزدهرة ويعود الفضل في ذلك للفحم بشكل أساسي. لكنّ ذلك ليس دون مقابل. فمحطة توروف الحرارية تعتبر إحدى المحطات الخمس الأكثر إصداراً لثاني أكسيد الكربون، والأكثر تلويثاً في أوروبا.

عند حي قريب من مداخن محطة توروف، ضرب لنا أحد السكان موعداً. إنه عامل في قطاع الطاقة. طلب منا عدمَ الكشفِ عن هويتِه وإخفاء صورته. هذا العامل أوجز لنا ما يتعرض له السكان من مخاطر “استخراج الفحم وحرقه يسبب العديد من المشاكل الصحية، وذلك بسبب الغبار والجسيمات الدقيقة التي يخَلِّفُها. وغالباً ما يتِمُ تخطي المعاييرِ المسموحِ بها”.

وأضاف “إننا نشعر بالغبار في أفواهنا وأعيننا وأنوفنا. ونراه فوق كلِّ شيء حولنا”. وقد أكمل حديثه حاملاً جهاز حاسوب يدوي صغير، وهو يقول “هنا يقومون بتحميل وتخزين الفحم. انظري.. هذا بالقرب من مساكننا”.

هذا العامل أراد ان يبيّن لنا مساوئ الفحم مشيراً الى أن الثلج تحول لونه الى الأسود. وبعد عملية التنظيف اليومية يغطي الغبار الأسود للفحم شرفته وما عليها بالكامل.

التلوث يقضي سنوياً على حياة 50 ألف شخص
محكمة العدل الأوروبية أدانت بولندا لرداءة نوعية الهواء فيها. السبب ليس لأن صناعتها مرتبطة بالمناجم فقط، بل لأن الفحم يُستَخدَم للتدفئة والطهي في 40%من المنازل. ووفق الوكالة الأوروبية للبيئة أشارت الى أن التلوث في بولندا يقضي سنوياً على حياة خمسين ألف شخص تقريباً.

وصلنا الى كاتوفيتسه، عاصمة إقليم سيليزيا، التي استضافت القمة العالمية للمناخ، مؤخراً، تعرفنا على أحد الناشطين البيئيين. لقد كان يوزع أقنعة لتوعية السكان على مخاطر التلوث.

هذا الناشط يدعى باتريك بيالاس أكَّد لنا “بين أكثر خمسين مدينةً ملوِّثة للبيئة في الاتحاد الأوروبي، ثلاثُ وثلاثون مدينة منها موجودة في بولندا. والفحم أحد أسباب الاحتباس الحراري. لذلك نحن بحاجة للتخلص التدريجي من الفحم”.

هل من الممكن التخلص من قطاع الفحم؟ إنه تحدّ كبير يواجهه إقليم سيليزيا الذي يُعرفُ بمملكةِ الفحمِ البولندي. هذا القطاع أوجد خمسة وثمانين ألفَ وظيفة بشكل مباشِر، وأربعةُ أضعافِ هذا الرقم تمثل أعمالاً غير مباشِرة.

ويعتبر مَنجم الفحم في بياست، على مقرُبة من كاتوفيتسه، يُعتبر الأكبرَ على الإطلاق في أوروبا. وقد سُمِحَ لنا بدخوله قبل بدء أعمال قمة المناخ. الوصول إلى هذا المنجم غيرُ سهل. إدارات المناجم لا ترغب بدخول كاميرات الإعلام قبل قمة المَناخ. إنها خائفةٌ من الدعاية السيئة ضدها.

عند هذا المنجم، حان وقت عودة العمالِإالى منازلهم بعد أن أمضوا سبع ساعاتٍ تحت الأرض يومياً، على عمقِ خمسمئة أو ستمئة متر. ثلاثة آلاف وخمسُمئة عامل يعملون فيه. رادوسلاف فوينر أحدهم. عمره تسعة وعشرون عاماً. ويعمل فيه منذ تسع سنوات.

تحميل العمال المسؤولية الاحتباس الحراري هو عنصرية اجتماعية
يقول ردسلاف إن العمل مجِهدٌ وخطير، لكنه لا يتخيل نفسَه في مكانٍ آخر. ويضيف “طِوال حياتي أرى هذا المَنجم من نافذتي. كان والدي عاملَ مناجم، وكذلك جَدِّي. إنه تقليد ينتقل من جيلٍ إلى جيل. أحياناً أشعر أنني حُطامٌ بشري، يؤلمني عمودي الفِقري وركبتي وساقيّ. هذه هي طبيعةُ عملِنا. شيءٌ ما يشدني إليه، لأواصلَ العملَ هنا”.

خارجَ أوقات العمل، لدى رادوسلاف هواياتٌ أخرى يتشاركُها مع صديقِه وجارِه. أحدهما اسمه دومينيك واتشياك. لديهم مدونةٌ مخصصة لرياضاتِ التزلج بمختلِف أنواعِها. وعن هذه الهواية يفسر لنا “لأن عملي يحتِّمُ عليَّ أن أقضي وقتاً طويلاً في الأنفاق الضيقة وفي الظلام، لذا أكافئ نفسي خلال وقت الفراغ بالذهاب إلى الأماكن المفتوحة، في الجبال”.

رادوسلاف هو أيضاً مصوِّرٌ فوتوغرافي. منذ أعوام، يخصِّصُ هوايتَه لتخليدِ واقعِ حياة عمالِ المناجِم تحت الأرض. وعن ذلك يخبرنا “أعيش هنا وأعمل في المنجم، واجبي إظهار هذه التقاليد لتبقى في الأذهان”.

مكافحةُ ظاهرة الاحتباس الحراري تدخل أيضاً ضمن اهتمامات هؤلاء العمال. لكنهم يرفضون أن تكون على حساب المجتمع الذي نشأوا فيه، كما أكد لنا دومينيك واتشياك الذي هو أيضاً مؤسس كوبالنيا كرياتينوا أو “شركة المنجم الإبداعي”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى