الادب والثقافة

قراءة نقديّة: طقوس الجمال عند الشّاعر العراقيّ حسين نهابة في ديوانه ( طقوس ما بعد الأربعين)

64703783_2339607389660292_7885916119913988096_n

 

للناقدة السورية / ميَّادة مهنَّا سليمان
في هذا الدّيوان طالعَتني طقوس جمال، وسحر، ومشاعر مرهفة، فنحن أمام باقة قصائد ملوّنة في بستان شغف، أو حديقة حبّ أو مرج نبضٍ رهيفٍ يسحرنا بحروفٍ معمّدةٍ بالعشقِ، والفرح، واللوعة، والغربة الرّوحيّة، والأمل، والانكسار، واللهفة.
نحن هنا أمام رجلٍ أحبَّ، فكانتِ المرأة محور حياته، وشغفه، واهتمامه. ونلحظ وجودها في قصائده مرتبطةً بانثيالاتٍ عاطفيّةٍ رقيقةٍ؛ فهي الحبيبة، الصّديقة، المعذِّبة، والملجأ، والوطن، والأمن، والأمّ الرّؤوم، فنجد الشّاعر أمام حبّها الكبير يعود طفلًا
يقول في قصيدته (سندباد):
كيف لي أن أُقنِعَني
بأنّكِ لستِ أمّي
وأنّي لم أولد من رحم السّماء
يا أنتِ
يا كلّ النّساء اللواتي
ضفرنَ أيّامي بالسّواد
وعطّرْن مخدعي بأغنيات الأولاد
ودلّلنني، وهدهدنني بأرجوحة المساء

ومنذ بدء الدّيوان تطالعنا قصيدته (بغداد)
المرأة الأولى المقدّسة عند الشّاعر
حين يختلط حبّ الوطن ويتماهى مع حبّ المرأة تصبح بغداد الوطن/المرأة
المرأة أو المحبوبة الّتي تحتوي الشّاعر
هو هنا العاشق العراقيّ المحمّل بشجون الواقع الأليم.
العراقيّ الّذي لا يطال من الأماني إلّا أبأسَها!
وهي هنا بغداد الحزينة الّتي أدمَتها أشواك الزّمان!
يقول في القصيدة ذاتِها:
عبثًا أطلّ من قلبي الصّغير
الّذي لم يتّسع لسواكِ
وأمدّ عنق الطّموح نحو حصرم الأخريات
عيناكِ، حياءُ بنفسجٍ حزينٍ
ما أنصفه التّاريخ
فتورّدَ بوعودٍ كاذبةٍ

وننتقل مع الشّاعر لندخل عوالم المشاعر فهو كرجل عاشق وكشاعر لا يحبّ المألوف
يقول في قصيدة (شهقة الفقدان):
لا تكوني امرأةً تقليديّة
فلستُ الرّجل الّذي تغريه النّساء الخجولات
بشفاههنّ المتورّدة والضّفائر الذّهبيّة

وهو ذاك الرّجل الّذي يرى الكرامة “جبالًا عفِنة”
حين يحبّ بكلّ نبضه، وشغفه، وجنونه
حين يلوّعه الشّوق، والحنين لامرأةٍ أحبّها يحار كيف يطرق باب قلبها ونجد الصّراع محتدمًا في ذاته
بين التّمسّك بالمحبوبة، وبين التّمسّك بالكرامة
ولعلّه لا يرغب في أن ينطبق عليه ما كتبتُه سابقًا:
“ربَّ كبرياءٍ قتلَ حبًّا
ثمَّ مشى في جنازة قلبهِ!”
يقول في قصيدة (رجولة ممتهنة):
احترتُ معكِ
أبتسمُ..تغتالني غيرتك غير المبرّرة
أعبسُ، تستنفرين غابات أنوثتك المدجّجة لامتهاني
تارةً أهزّ ذيل الطّاعة مرغمًا
كي لا تتهاوى مدنٌ بنيناها معًا
تحت وابل الهزيمة
وأخرى أحمل على كتفي
جبالًا عفنةً سمِّها “كرامةً”

وهنا تتضّح المعاناة الّتي يرزح تحت وطأتها
ولو لم يكن شاعرًا لما تجرّأَ، وقالها؛ فهو ينبذ الكبرياء ويولي الحبّ الأهمّيّة القصوى في حياته يقول في اعترافٍ رائعٍ في قصيدته (قوافل القلق):
أيّ رجلٍ أكونه
حين تصدّين عنّي؟
ماقيمة الأنبياء بلا معجزاتهم
أيّة كرامة تبقى لهم؟
مثلهم أنا
لا كرامة لي بدونك
ولا قيمة

فنقرأ ولا يسعنا إلّا أن نشعر بالتّقدير لرجلٍ
نبذَ عُقدَ الشّرق، وترّهاته، وتقاليده السّخيفة
ليعلن خضوعه للمرأة المحبوبة، وأيّ خضوع؟
إنّه في قصيدة (ابنة الشّطّ الأخير)
يزيد من الاعترافات الرّجاليّة المحرّمة مجتمعيًّا:
أنا الرّجل الّذي لم يلتفت إليه أحد
أنا المسخ اللائذ من سخط ماضيه
والمتحمّم بضوء عينيكِ
ويتابع بصور شعريّة خلّاقة:
وحدكِ يا ابنة الشّطّ الأخير من عمري
قطفتِ من بستان الرّيح وجهي
ولملمتِ سلال الحزن
ورصفتِ ما تهدّم من حائط ذاكرتي
وعجنتِ بالحنين خبز الأمنيات.

ولا نعجب، فهو يطلب منها في قصيدة
(غد لا يعرفني) أن تكون ملاذه الأخير للطّمأنينة:
وحدك زادي وناري ودلّتي
فكوني لي ظلّي وخيمتي الأخيرة

ونجد عند حسين التّناصّ القرآنيّ في قصيدتين:
(قميصي المسعور، وساديًّا يكشّر عن أنيابه، أحَبَّكِ)
يقول في الأولى يرينا حالته حيث هو غارق في بئر حبّها، وما من منقذ سوى خفقة من قلبها:
أفردي لي قطعة من جناحك
فالجبّ عميق
والسّيّارة تأبى أن تلتقط
قميصي المسعور بك
وفي الثّانية تتجلّى النّاحية النّفسيّة
من كلمة (الذَّنب) و (بكائي، ويقتلني):
إنّ الذّنْب يقتلني، وبكائي يفضحني
وهذا القميص المرصّع بالعطور
خِطناه معًا ليوم عرسٍ
نامي بكنف الرّبّ أيّتها الأصيلة
فما زلت أنتظر أن يأتوا على قميصك
بدمٍ كذبٍ

ثمّ تقترن الحبيبة بالسّلام حين يشبّهها بغصن الزّيتون، ولا يكتفي بذلك، بل يعطيها بعدًا سماويًّا، فهي الرّاحة الأبديّة والسّلام والسّكينة
يقول في قصيدة (غصن زيتون):
من أنا أمام عينيكِ أكون؟
بوابتا سماء
للعبور إلى الجنّة

لذلك هو الملوَّع بها، والّذي يستحيل عليه نسيانها:
يقول في قصيدة (ربّان السّفن المنهكة):
هل تتوقّعين بأن أنساك يومًا؟
هل تظنّين بأنّ رجلًا مطعونًا بعينيك مثلي
قادر على نسيانك؟

وإضافةً إلى كلّ تلك المعاني السّامية للمرأة
نجده في قصيدة (مذبح عينيكِ)
يمنحها القداسة العشقيّة في هيكل سعادته:
أنا القائم في هيكلي أصلّي
صرت أقرأ عند مذبح وسادتك أناشيد الحياة
ويقول أيضًا بصورة حسّيّة معنويّة فريدة أدهشَتني:
هل عرفتِ من قبل مؤمنًا أعمى مثلي
يطفئ إيمان قلبه
دون أن يبصر الكرامات
أنت كلّ كراماته
وأنت كشف الغطاء
هذه قراءتي المتواضعة لديوان شعر جلتُ فيه وكنت أشمّ روائح الاشتياق، وعبق اللهفة المنثور في بتلات كلماتٍ ملوّنة بالعشق والوله والنّقاء واللوعة الجميلة
وكلّما قرأتُ قصيدةً، أو جملةً سحرَتني كنتُ أقول:
الله..ما أجملك يا حسين!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى