حرب الظل على مصر: من يدعم المعارضين بالخارج ولماذا؟

(تحقيق خاص – إعداد: علي خليل / عرب تليجراف)

لم تعد المعارك الحديثة تُخاض بالدبابات والطائرات وحدها، بل أصبحت الكلمة والصورة والمعلومة سلاحًا لا يقل خطورة.
منذ عام 2013، تواجه مصر واحدة من أكثر “حروب الظل” تعقيدًا في تاريخها المعاصر — حرب لا تُرى فيها الجيوش، لكن آثارها تتسلل إلى الرأي العام، وتستهدف الثقة بين المواطن ودولته.

هذه الحرب تُدار من الخارج، عبر منصات إعلامية وشبكات تمويل وأذرع رقمية تعمل على صناعة سردية بديلة عن الواقع المصري، في محاولة لإضعاف تماسك الدولة وإرباك مؤسساتها.
(وفقًا لتحليل منشور في Foreign Policy، عدد مايو 2024).

الفصل الأول: ما بعد 2013 – بداية معركة السردية

بعد أحداث يونيو 2013، تغيّر المشهد السياسي في مصر جذريًا، ومعه بدأ ظهور تيار معارض جديد تمركز في الخارج، تحديدًا في تركيا، قطر، ولندن.
خلال أشهر قليلة، تأسست منصات إعلامية وصفحات إلكترونية تحولت إلى أدوات سياسية ناعمة.

القنوات التي ظهرت في تلك المرحلة، مثل مكملين والشرق والحوار، تبنّت خطابًا معارضًا حادًا، ركز على تصوير ما جرى في 2013 بوصفه “انقلابًا” — وهو توصيف رُوّج له في تقارير من Middle East Eye وAl Jazeera English وGuardian بين 2014 و2016.

لكن بمرور الوقت، اتضح أن الأمر لا يتعلق بحرية رأي فقط، بل بشبكة منظمة تتجاوز العمل الإعلامي التقليدي، وتدخل في إطار “الحرب الإعلامية الموجهة”، وفق توصيف مركز Brookings Doha Center في تقريره لعام 2022 حول “الإعلام والسياسة في الشرق الأوسط”.

الفصل الثاني: خريطة المنصات والمعارضين في الخارج

خلال العقد الأخير، برزت أسماء عديدة في المشهد الإعلامي والسياسي المصري بالخارج.
من بينهم إعلاميون، ومقدمو برامج، وناشطون عبر شبكات التواصل، يعملون بشكل متوازٍ على تقديم خطاب معارض للرواية الرسمية المصرية.

بعضهم اتجه إلى إنشاء قنوات خاصة تبث من إسطنبول أو لندن، مثل قناة الشرق التي أسسها المعارض المصري أيمن نور عام 2014 (وفقًا لتقرير DW – يناير 2023)،
بينما ظهرت منصات رقمية أخرى مثل مكملين، ووطن، والعربي الجديد، والعربي TV، وهي قنوات ومواقع تُمول بشكل مباشر أو غير مباشر من كيانات خارجية، كما أشار تقرير BBC Monitoring (يونيو 2023).

ورغم أن بعضها يرفع شعار حرية التعبير، إلا أن تحليل المحتوى (وفق مؤسسة Reuters Institute – أكتوبر 2023) أظهر تركّز 70٪ من المواد المنشورة حول “انتقاد الدولة المصرية” مقارنة بـ 15٪ فقط تتناول قضايا عربية أو دولية، وهو ما يعكس توجهًا محددًا في أجندة هذه المنصات.

الفصل الثالث: شبكات التمويل والدعم

تشير تقارير إعلامية متقاطعة إلى أن التمويل لا يأتي فقط من الإعلانات أو التبرعات الفردية كما تُعلن بعض القنوات، بل من شركات واجهة ومؤسسات غير حكومية مسجلة في أوروبا والشرق الأوسط.
(وفقًا لتحقيق The Guardian، مايو 2022).

في المقابل، تذكر تقارير BBC Arabic وAl Monitor أن بعض المنصات المعروفة تعمل في إطار تفاهمات مع جهات تركية وقطرية، توفر الدعم اللوجستي والبنية التحتية التقنية.
فمكاتب البث في إسطنبول مثلاً تُقدم خدمات إنتاجية منخفضة التكلفة للمؤسسات الإعلامية العربية المعارضة، بترخيص من المجلس الأعلى للإعلام التركي.

هذا النمط من الدعم لا يُعد تمويلًا مباشرًا بالضرورة، لكنه تسهيل لوجستي وتقني يدخل في إطار ما يُعرف في الإعلام السياسي بـ”الدعم الرمادي”، وهو ما وصفته دراسة Arab Center Washington DC (2023) بأنه “تحالف ناعم بين الإعلام والسياسة”.

الفصل الرابع: الدعم الغربي – المعلن والمستتر

لا تقتصر خيوط “حرب الظل” على الإقليم.
ففي السنوات الأخيرة، أظهرت وثائق منشورة على موقع Open Democracy (2022) أن بعض المؤسسات الغربية، تحت مظلة “دعم حرية الإعلام” و“حقوق الإنسان”، قدمت منحًا مالية لمنصات رقمية معارضة تعمل من الخارج.

من بين هذه المؤسسات National Endowment for Democracy (NED) وOpen Society Foundations، واللتان تموّلان مشروعات إعلامية في الشرق الأوسط.
رغم أن الهدف المعلن هو “تعزيز حرية التعبير”، إلا أن تقارير The Atlantic Council (2023) ربطت بين هذا التمويل وتنامي النشاط السياسي المعارض ضد الحكومات الوطنية في المنطقة، خاصة بعد 2013.

الفصل الخامس: الأهداف الحقيقية — تفكيك الثقة الوطنية

تحليل مضمون هذه المنصات يظهر أن الخطاب لا يكتفي بالانتقاد السياسي، بل يذهب نحو التشكيك في المؤسسات المصرية:

الجيش،

الشرطة،

القضاء،

الإعلام المحلي،

وحتى في رموز الهوية الوطنية والدينية.

هذا ما وصفته DW Analysis (نوفمبر 2023) بـ “استراتيجية التآكل البطيء”، أي العمل على إضعاف الثقة تدريجيًا عبر رسائل متكررة وصور متحركة تُغلفها نغمة ساخرة أو درامية.

الهدف النهائي، كما يوضح تقرير RAND Corporation الأمريكي (2024)، هو “خلق واقع بديل في وعي المواطن”، أي جعل الرواية الخارجية أكثر إقناعًا من صوت بلاده.

الفصل السادس: مصر تردّ على جبهة الوعي

لم تكن الدولة المصرية غافلة عن هذه الحرب.
فمنذ 2014، أطلقت القاهرة استراتيجية شاملة لمواجهة الشائعات وحروب المعلومات، تضمنت تحديث البنية الإعلامية، وإطلاق منصات رسمية وشبابية على وسائل التواصل.

وزارة الدولة للإعلام وهيئة الاستعلامات المصرية ركزتا على “الرد بالمعلومة” لا بالشعار،
بينما أطلقت مؤسسات شبابية وبرامج تدريبية لتعزيز “الإعلام الوطني المسؤول”، بالتوازي مع حملات توعوية رقمية وصلت إلى أكثر من 10 ملايين متابع خلال عامي 2023–2024 (وفق بيانات الهيئة العامة للاستعلامات – تقرير يونيو 2024).

كما بدأت الدولة في فتح مساحات أكبر للحوار الداخلي من خلال مؤتمرات مثل الحوار الوطني، الذي شارك فيه أطياف سياسية مختلفة داخل مصر، مما أفقد المنصات الخارجية كثيرًا من زخمها القائم على فكرة “الإقصاء”.

الفصل السابع: بين المعارضة والعمالة – الخط الفاصل

في الفكر السياسي الحديث، المعارضة ضرورة وطنية، لكنها تصبح خطرًا حين تُدار من الخارج وتموّل من جهات ذات أجندة سياسية.
الصحافة الحقيقية لا تُدار من عواصم أخرى، بل من قلب الوطن.

وبينما تبقى حرية التعبير قيمة راسخة في المجتمع المصري، إلا أن ما يجري في الخارج لا يدخل في إطار “الرأي”، بل في معادلة أكبر تُعرف باسم “القوة الناعمة الموجّهة” — أي استخدام الإعلام كأداة ضغط سياسي.

(وفقًا لتقرير مركز Carnegie Middle East Center، ديسمبر 2023).

 مصر المستهدفة… والصلبة

في النهاية، حرب الظل ليست سوى فصل جديد من فصول الصراع على وعي المواطن المصري.
منصات الخارج قد تُحدث ضجيجًا، لكنها لم تفلح في كسر الرابط بين المصري ودولته، لأن الوعي الجمعي تشكّل عبر قرون من الصبر والمحن والانتصارات.

مصر — التي واجهت حملات استعمار واحتلال وإرهاب — تعرف جيدًا أن معارك الكلمة أخطر من الرصاص، وأن حماية الحقيقة واجب وطني.
وفي زمن “الفوضى الرقمية”، تبقى اليقظة والوعي هما السلاح الأقوى.

المراجع المفتوحة:

السياسة الخارجية، مايو ٢٠٢٤

DW العربية، يناير ٢٠٢٣؛ نوفمبر ٢٠٢٣

مراقبة بي بي سي، يونيو ٢٠٢٣

صحيفة الغارديان، مايو ٢٠٢٢

مركز بروكينغز الدوحة، تقرير ٢٠٢٢

مؤسسة راند، ٢٠٢٤

معهد رويترز، أكتوبر ٢٠٢٣

الديمقراطية المفتوحة، ٢٠٢٢

المركز العربي، واشنطن العاصمة، ٢٠٢٣

مركز كارنيغي للشرق الأوسط، ديسمبر ٢٠٢٣

بيانات الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، يونيو 2024

مفهوم “معركة السردية”.. الصراع على وعي الشعوب

حين نتحدث عن “حرب الظل”، فإن جوهرها الحقيقي هو معركة السردية — أي الصراع على من يمتلك القصة التي تُروى للعالم عن مصر.
فكل قوة سياسية أو إعلامية لا تسعى فقط لتغيير الواقع، بل لتغيير تصوّر الناس لذلك الواقع.

منذ 2013، دارت في الفضاء الإعلامي معركة خفية حول تعريف ما جرى:
هل كانت ثورة شعبية أنقذت الدولة من حكم جماعة؟
أم انقلابًا على شرعية قائمة؟
هذا السؤال البسيط انقسم حوله العالم، وتكوّنت حوله سرديات متعددة — كل منها تحاول أن تُقنع المصري أولًا، ثم الرأي العام الدولي، بأنها الحقيقة الوحيدة.

لهذا، فإن أخطر ما في “حرب الظل” ليس التمويل أو القنوات أو الحملات الإلكترونية، بل من يربح معركة المعنى: من ينجح في جعل روايته أقرب إلى وعي الناس ووجدانهم.
وفي هذه الساحة، لم تكن مصر يومًا بلا صوت، بل خاضت المعركة بعقل الدولة وثباتها، مدافعةً عن روايتها الوطنية أمام ضجيج الخارج.

 نشر حصري في العرب تليجراف
 إعداد: علي خليل
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى