مقالات

كتاكيت.. كتاكيت!

يدخل الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق على قطاع غزة في أيامه العشرة الأول بعد المائة، وتثير طول المدة التي استغرقتها إسرائيل حتى الآن في قتل الأطفال والنساء فضول بعض محبي الشعارات والإحصاءات فيقول البعض : إن هذه أطول حرب خاضتها إسرائيل في تاريخها، ويقول البعض أن هذه الأعداد هي الأكبر في تعمد قتل الأطفال وقصف المستشفيات وإهلاك الحرث والنسل إلى آخر تلك الإحصاءات والأمثال والقصص، وأنا في الواقع غير مهتم بتلك الإحصاءات ولا الشعارات والمقولات، ولست مهتما أيضا بالأخبار ولا القصص، أنا مهتم بالنتائج وكما تقول القاعدة الأصولية ليست العبرة بالألفاظ والمباني وإنما العبرة بالمقاصد والمعاني.
دعوني هنا أضرب مثلا بسيطا: لو أن عندنا ميزان له كفتان ووضعنا في الكفة الأولى مائة كيلو جرام ووضعنا في الكفة الثانية نصف كيلو جرام فأي الكفتان سوف ” يطب “، وأيهما سوف يرتفع ؟، الإجابة معروفة بكل تأكيد أن المائة كيلو جرام ” تطب “، وأن النصف كيلو سوف ترتفع، حسنا فإذا وجدنا أن النصف كيلو جرام هي التي ” تطب “، وأن المائة كيلو جرام هي التي ترتفع فماذا نتوقع ؟ بكل تأكيد نتوقع أن أحدا له قوة أكبر من المائة كيلو جرام جاء من أسفل الميزان ورفع النصف كيلو إلى أعلى.
دعونا من كل تلك القصص التي لا ” تأكل ” معي كحقوقي، فمهنتي النفاذ إلى الحقيقة وليس ” أكل الحلاوة “، إن إسرائيل بكل تأكيد وبما لا يدع عندي مجالا لأي شك لا تريد أن تحرر الرهائن، وإن إسرائيل بكل تأكيد وبما لا يدع عندي مجالا لأي شك لا تريد أن تدمر الأنفاق، وإن إسرائيل لا تريد أن تعتقل أيا من قادة حماس، وإن إسرائيل لا تريد من تلك الحرب إلا شيئا واحدا هو طرد أهل غزة من أرضهم وتهجيرهم خارجها، وأنا هنا مستعد لمناقشة أي خبير عسكري أو استراتيجي في مسألة مائة وعشرة أيام من القصف المستمر ليلا ونهارا والتوغل الذي لا يتوقف في هذه المساحة الصغيرة التي لا يتجاوز عرضها ستة كيلو مترات يعيش سكانها بين البحر أمامهم والعدو من ورائهم، لا يملكون مأوى ولا طعام ولا وقود ، فماذا تريد أي قوة معادية في العالم ظروفا أفضل من تلك لتحرير رهائنها وأسر قادة عدوها وتدمير كل شيء فيها ؟.
إن المؤامرة التي نسجها اليهود من قبل هجوم السابع من أكتوبر، بعد أن علموا به فتركوا حماس تمر وتركوا الأهالي تمر ولم يكن باقيًا سوى أن ينادي الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة ” يا أهالي قطاع غزة لقد سقط الجدار فمروا إلينا واقتلونا لأننا في جيش الدفاع لن نأتي إلا بعد عشر ساعات بل سنقوم بمساعدتكم بقصف الحفل الموسيقى وكل البيوت التي تدخلونها مع استعدادنا لتقديم المشروبات والعصائر لمن يمر منكم إلينا “، هذه الفكرة التي سيطرت على العقلية الإسرائيلية قبل هجوم السابع من أكتوبر لتضخيمه وتصويره وتسويقه للعالم ليس من أجل قتل قادة حماس التي تعرف إسرائيل بكل تأكيد أين هم ولا من أجل تحرير الرهائن الذين ليس عندي شك أن إسرائيل تعرف أين هم ولا لتدمير الأنفاق التي تعرف إسرائيل ألف طريق وطريقة لتدمير معظمها إن لم يكن كلها أو تعطيلها على الأقل.
دعونا نتعامل مع الواقع لا مع الفيديوهات التي ينقلها الصحفيون والمراسلون، إن مقاومة حماس لإسرائيل على هذا النحو الذي رأيناه على مدار مائة وعشرة أيام هو أمر مستحيل جملة وتفصيلا، وهنا أنا لا أشكك في التضحيات التي قدمها شعب غزة ومقاومته بل هي عندي محل احترام وتقدير إلى أبعد مدى، وإنما أنا أنظر هنا في داخل العقلية الإسرائيلية لأقرأ ماذا تريد من تلك الحرب ليس فقط الآن وإنما من قبل أن تبدأ ، إن حماس ليست الإتحاد السوفييتي ولا الصين الشعبية وإن الجيش الإسرائيلي وعلى مدار عشرين عاما الآن تقع كل خططه وتدريباته وأسلحته لهدفين اثنين لا ثالث لهما مواجهة صواريخ حزب الله في الشمال واجتياح قطاع غزة في الجنوب، وإن تحرير الرهائن أو اعتقال قادة حماس سوف يضع نهاية منطقية للحرب وإسرائيل لا تريد أن تضع تلك النهاية المنطقية، وإنما تريد شيئا مختلفا عن ذلك أظهرت نيتها بالنسبة له وهو طرد الفلسطينيين من القطاع تمهيد لطرد الفلسطينيين من الضفة بعد ذلك .
إن تلك الحرب تذكرني بمشهد سينمائي قديم للفنان عبد الفتاح القصري، وقد ذهب لزيارة صديقة له لأهداف غير بريئة وكانت قد اتفقت مع آخر على أن يقوم بدور أخيها الذي يقيم معها وتصيبه حالة جنون كل عام مرة واحدة، وما أن دخل القصري إلى البيت وبدأ يلاطفها حتى ظهر أخيها الذي جاءته الحالة فقط في تلك الليلة وبدأ يطلب منه دبابات وصواريخ وهى رموز للعملات الورقية فئة العشرة جنيه، ولما نفدت صواريخه بدأ يقول ” كتاكيت كتاكيت “، يقصد بها العملات المعدنية الصغيرة كالمليم والقرش ولكنه في غمرة سعادته بالنقود قال ” غير القرش ده لأنه براني “، فتساءل القصري وهل يعرف المجنون البراني من الميري، فلما فهم اللعبة نكش شعره وصرخ فيها وفيه ” دبابات دبابات ” ” صواريخ ” ” كتاكيت “، واسترد ماله وقال لهم وهو على الباب هاربا ” ما فأستها يا كروديا “!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى