مقالات

ترنيمة عِشق | أصحاب الأرض والشّعب المرتَزق

بقلم حورية عبيدة

(في حروب التّحرير؛ لا يمكن هزيمة العدو؛ وإنّما إرهاقه حتى يُسَلم بالأمر الواقع.. فالمقاومة في “فيتنام” لم تهزم الجيش الأمريكيّ؛لكنها أرهقته لدرجة اليأس من تحقيق مخططاته؛ وهو ما فعله “المجاهدون الجزائريون” على مدي ثماني سنوات (1954-1962) في حرب التّحرير من الاستعمار الفرنسيّ).

هكذا يرى د.”عبد الوهاب المسيري” -رحمه الله- المؤرخ والمفكر وأحد أبرز العقول العربيّة في القرن العشرين.. صاحب موسوعة ” اليهود واليهودية والصّهيونية” الصّادرة في ثمانية مجلدات؛ استغرق 25 عامًا في كتابتها لتصبح تفسيرًا جديدًا مذهلًا.. متوقِعًا “نهاية قريبة” للدولة العبريّة..بناء على معطيات وحقائق في سياقها الموضوعي.

فقد تواترت الأخبار- في إطار الحرب على “غزّة” مذ السّابع من أكتوبر الماضي وحتى وقت كتابة هذا المقال – عن تسارُع وتيرة هجرة الإسرائيليين لخارج دولة الكيان؛ فطبقًا لبياناتهم؛ فقد هاجر نحو نصف مليون شخص؛ وهم يُقرّرون عدم العودة، وستمائة ألف آخرون كانوا على سفر بالخارج لم يعودوا رغم انتهاء إجازاتهم!! والآلاف يتكالبون على الهجرة لأوروبا؛ وتحديدًا “البرتغال” التي قدَّمت لهم تيسيرات في العمل والإقامة والوعود البرّاقة بدمجهم في نّشاطها الاقتصاديّ، وهاهي “أوكرانيا” تعلن عودة مائة ألف “يهوديّ أوكرانيّ” إليها رغم حربها ضد “روسيا”؛ لأنهم يرون أن الوضع فيها أكثر أمنًا من الأراضي المحتلة؛ فشرَف “الرّوس” في القتال أفضل من شرف اليهود !!

قالها يهوديّ عراقيّ في منتصف السّتينيات(لاحظوا)؛ والذي هاجر لدولة الكيان؛ ثم عاد ثانيةً لأمريكا معلنًا أنّ:(“الأشكناز” وهم اليهود الغربيون محتفظون بعناوين ذويهم بالخارج بعد توالي الهزائم للكيان.. بل وزاد عدد مَن يطلب منهم الحصول على جوازات سفر غربيّة)!!

وقد يفسر كلام ذلك اليهوديّ العراقيّ السّر وراء هروب المجندين -منذ السّابع من أكتوبر الماضي- من المواجهة مع المقاومة الفلسطينيّة، ورفْضِ الكثيرين من قوات الاحتياط العودة لصفوف القتال، لعدم ارتباطهم بالوطن – كارتباط الفلسطينيّ بأرضه- ممّا يؤدي لضعف قدرة الكيان التعبويّة لجنوده؛ بل ولشعبه بصفة عامّة؛ ويضرب “الشّرعيّة الصّهيونيّة” في مقتل.

الحرب على “غزّة” حاليًا؛ أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنّ إسرائيل دولة “مرتزقة” أو” طفيليّة”- تمامًا كدولة المماليك في مصر في منتصف القرن الثّالث عشر الميلاديّ- بمعنى أنّها تقوم على رعاية مصالحهم ومطامعهم الاقتصاديّة.. فهم ليسوا أبناءها كي يدافعوا عنها، حتى إذا ما انهارت اقتصاديًّا تركوها بغير رجعة، لذلك نرى أنّ الدّافع الأساسي لتهجير أوروبا لتلك العينة من البشر “الفائض اليهوديّ” -على حد تعبيرهم – لفلسطين كان للدفاع عن بل ورعاية مصالحه في المنطقة العربيّة.

هذا ما أعلنه “حاييم وايزمان”؛ الشّخصيّة الصّهيونيّة المحوريّة في استصدار “وعد بلفور”؛ حين قدّم نَفسه وعصابته ليكونوا ذلك الجسم الغريب المزروع وسط العرب؛ ليفصل مشرقهم عن مغربهم.. بعد أن دعا “بنرمان” رئيس وزراء “بريطانيا” عام 1907 إلى مؤتمر جمع فيه 7 دول أوروبيّة متشرذمة عرقيًّا ودينيًّا.. ونبههم إلى أن المنطقة العربيّة تملك كل مقومات النّهضة: (دين واحد، لغة واحدة، موقعًا جغرافيًّا، المواد الخام)، بل وتستطيع خنق أوروبا بتحكمها في مضيق:”جبل طارق” و”باب المندب” و”هرمِز”.. وكان قوله الشّهير: (العرب يحتاجون لقيادة صالحة لينهضوا.. فإذا نهضوا تشرذمتْ أوروبا).

وحين تساءل الحاضرون بالمؤتمرعن كيفية إضعاف العرب؛ قال “بنرمان”: (عن طريق زرع جسم غريب موالٍ لأوروبا ولا يُسمح بهزيمته؛ يعمل على خلْق حالة من عدم التّوازن في المنطقة).. ساعتها؛ ردّ عليه ” حاييم وايزمان” بقوله المُرحِب.

السّؤال المُلح الآن: هل تردي بل وشَلل الوضع الاقتصاديّ لدولة الاحتلال وحده -بسبب الحرب على غزّة – كفيل بانهيارها؟ هنا أعود لتنبيه الدّكتور “المسيري” لنلتفت لإشكالية خطيرة لم ينتبه إليها الباحثون أو الإعلاميون العرب؛ تتعلق بالهويّة اليهوديّة.

فالجماعات اليهوديّة ليست شعبًا واحدًا؛ فقانون العودة الصّادر عام 1948 والذي نصَّ على أنّه يحق لكل يهوديّ أن يهاجر لأراضينا المحتلة؛ لم يحدد أي يهوديّ تحق له العودة !! وذلك في ظل تعدّد الموروثات العرقيّة والدّينيّة للجماعات اليهوديّة؛ لا سيّما وأنّها تستمد هوِيّاتها من مجتمعات عاشت في ظلها، وتساءل الكثيرون هل يمكن تأسيس دولة يهوديّة دون تحديد وتعريف مَن هو اليهوديّ؟! لذا فقد أجّلت المؤسسة الصّهيونيّة الحاكمة النّظر لحين الوصول لحلول “تلفيقية مؤقّتة”! وهذا دليل على أنّهم ” مشروع استعماريّ” لا علاقة له باليهوديّة.

قضية تعدّد الأصول اليهوديّة تتضح على سبيل المثال في يهود “القوقاز وجورجيا” الذين انصهروا في مجتمعاتهم وفقدوا صلتهم تمامًا بـ “اليهوديّة الحاخاميّة”، وكذلك اندماج يهود الصّين ببلادهم، حتى اليهود العرب أصبحوا عربًا واكتسبوا الثّقافة الإسلاميّة.. وكَم يشد الحنين الكثيرين منهم للعودة ليعيشوا بالعراق أو اليمن أو مِصر؛ معلنين أنّهم كانوا يعيشون في رفاهيّة وسلام وآمان.. بل ولا يجدون غضاضةً في العيش في دولة متعددة الأديان طالما يأمنون على أحوالهم وممستقبلهم.

تشير الكتابات البحثيّة إلى أن يهود “الخزر” في جنوبي “روسيا” ليسوا بالأساس يهودا !! بل تحولوا لليهوديّة في القرن الثّامن عشر الميلاديّ، وهذا يُقوّض الادعاء الصّهيونيّ الخاص بالأصول السّاميّة الواحدة ليهود العالَم !!.. والمؤرخون الإسرائيليون أنفسهم يُقرّون بأن يهود أوروبا الشّرقيّة من نسل يهود “الخزر” الذين هاجروا لأوروبا !!

هكذا.. فبعد فشلهم في تحديد “مَن هو اليهوديّ”.. يفشلون ثانيةً في تعريف مصطلح “السّاميّة” الذي أرعبوا به العالَم اتهامًا بهتانًا وتضليلًا بأنّ كل مَن لا يقف معهم مُعاد للسّاميّة !! والحقيقة أنّا – نحن العرب- ” السّاميون”؛ من نسْل “سام” ابن سيدنا “نوح” عليه السّلام؛ ولكننا لا نملك المعرفة الكافيّة ولا نتقن مهارة الرّد عليهم !!

حين نأخذ في الاعتبار البُعد الاقتصاديّ الذي ينهار جرّاء الضّربات الموجعة للمقاومة الفلسطينيّة وضعْف انتماء “الإسرائيليّ” لوطنه لتَعدّد موروثه العرقيّ؛ نأتي لملمح شديد الأهمية؛ يتمثل في فقدان ذلك المواطن ثقته في الأرض التي رسموا له الأحلام كي يعيش فيها.. فقد اكتشف أنّ”الدّولة العبريّة” ليست في حال دفاع عن النّفس، بل هي دولة “عدوانيّة”؛ وأنّ الحروب المتواليّة لم تؤدِ لسلام (لاحِظوا كثرة ترديد المحللين العسكريين لديهم خلال الحرب على “غزّة” لمقولة: أنّ الحرب طريق السّلام.. وأنّهم لا بد أن يحاربوننا – نحن العرب- كي يفرضوا علينا السّلام؛ بحجة أن العرب لا تفهم بالعقل بل بالحرب فقط) !!

الأجيال الحالية بدولة الكيان تُعدّد الحروب التي خاضتها دولتهم المزعومة؛ وكيف أنها لم تسفر عن ذلك السّلام بدءًا من حرب 1948، وحرب الاستنزاف 1967، وحرب أكتوبر 1973، والانتفاضة الأولى بفلسطين 1987، ثم الانتفاضة الثانية 2006، وهزيمتهم من “حزب الله” في يوليو 2006، وانسحابهم من جنوب لبنان.. كل تلك الحروب لم تهب الكيان السّلام كما يدّعي.. بل أثبتت بلا ريب أنّ جيشه وأسطورته يسهُل هزيمتهما؛ خاصّة مع تنامي شعور الأجيال العربيّة المتوالية بكراهية ذلك الكيان المغتصب المزروع في وطنها.

“مزحةٌ” جميلة تنتشر هذه الأيام داخل الكيان تسخر من قبتهم الحديديّة الفاشلة على التّصدي للمقاومة الفلسطينية ولصواريخ “جنوب لبنان”.. تقول المزحة: (على إسرائيل أن تمد المقاومة بصواريخ” سكود” لأنّ القبة تجيد رؤيتها والتّعامل معها) !!

نهاية الكيان الغاصب

للأسباب السّابقة وغيرها – ممّا لا يتسع المقال لسردها – يتوقع الكثيرون بل ويعلنون بثقة قرب زوال الكيان الغاصب.. بل إنّ باحثيهم أنفسهم لا ينكرون هذا الخوف.. حتى أصبحت:(كمية الكتابات لدى باحثيهم وكُتّابهم عن النهاية مُملة) -على حد تعبير المسيري- وقد كان ذلك الهاجس مُلازِم لمؤسسيّ الكيان المحتل.

ولن ننسى”ديفيد بن جوريون” أول رئيس لوزرائهم؛ والذي ألقى عام 1938 خُطبة في منتهى الوضوح والصّدق؛ تضمّنت كيف أنّ الجماعات اليهوديّة في فلسطين لا تواجه “إرهابًا” !!

فقد عرّف “بن جوريون” الإرهاب بأنّه: (مجموعة من العصابات مُمَولة من الخارج.. ونحن هنا لا نجابه إرهابًا وإنما حربًا. وهي حرب قوميّة أعلنها “العرب” علينا.. فهذه مقاومة فعّالة من جانب الفلسطينيين لما يعتبرونه اغتصابًا لوطنهم من قبل اليهود، فالشّعب الذي يحارب ضد اغتصاب أرضه لن ينال منه التّعب سريعًا).. وقد صدَق وهو الكذوب.

جميعنا يتذكر؛ حين وصف وزير الدّفاع الإسرائيليّ الأسبق “موشِي ديّان” قيام دولة فلسطينيّة حقيقيّة جوار دولة إسرائيليّة بأنّه أمر:(عديم الجَدوى.. لأنّ الدّولة في هذه الحالة ستكون مجرد مكان أو قبور تُرفع عليها)!!

بن جوريون وجولدا مائير

وإذا كان العرب والفلسطينيون لا يَقبلون إلا بتحرير كامل أراضيهم المحتلة.. فهل هناك معطيات تشير لذلك؟ أعود لموسوعة “المسيري” لنجد عشر نقاط حدّدها لزوال هذا الاحتلال البغيض وهي:

أولًا: تآكل المنظومة   المجتمعيّة للدولة العبريّة بعدما فشل مصطلح “الصّهر” الذي حدده “ديفيدبن جوريون” لصهر المجتمع الإسرائيلي بأكمله في منظومة واحدة موحّدة القوميّة؛   بعيدًا عن الهويات المتعدّدة التي جاء بها اليهود من مختلف بلدان العالَم،   مُعلنًا: (أنّ هذا المفهوم فشل في إيجاد هويّة قوميّة موحّدة لليهود القادمين   إلى إسرائيل، فهناك مشكلة دمج “عرب 48 “والأقليات داخل المجتمع، والتي   مازالت تمثل عائقًا.. كما وقَع المجتمع الإسرائيليّ ذاته في مجموعة من   الاستقطابات والصّراعات الفكريّة والعرقيّة).

ثانيًا: الفشل في تغيير   السّياسات الحاكمة؛ الذي أدى إلى تزايد حالة القلق من قِبل المفكرين والمثقفين، وصل   إلى درجة الهاجس من حدوث انهيار الدّاخل الحزبيّ، وظهور تمرد عام؛ أو شيوع حالة   من التّذمر في مؤسسات الجيش والاستخبارات؛ على غرار ما جرى في السّتينيات بين   صفوف “الموساد” في ظل تعثّر خطوات تطوير النّظام السّياسي القائم.

ثالثًا: زيادة عدد   النّازحين للخارج؛ فقد أشارت السّجلات إلى نزوح مليون إسرائيلي للخارج من إجمالي   ستة ملايين قدِموا إليها.

رابعًا: عدم اليقين من   المستقبل؛ فالمجتمع لديهم “مصطنع”، وبالتّالي سيظل الشّعور بعدم الانتماء   إلى المنطقة العربيّة قائمًا؛ وهنا يقول رئيسهم السابق”شيمون بيريز”-ذات   لقاء صحفيّ- عندما سأله أحد الصّحفيين:(هل ستبقى إسرائيل ستين عامًا أخرى)؟ فرَدّ   عليه: (اسألني هل ستبقي عشر سنوات قادمة) ؟!

خامسًا: انهيار نظرية   الإجماع الوطنيّ نظرًا لاتساع الهوة القائمة بين العلمانين والمتدينين؛ والتي أدّت   لحالة من العداء المستمر بين الأحزاب الدّينيّة الشّرقيّة والغربيّة والوسطيّة.

سادسًا: الفشل في   تحديد ماهية الدّولة اليهوديّة؛ فالحاخامات يؤكدون أنّ الإعلان عن الدّولة اليهوديّة   يعني إعلان علامة انهيارها وفقًا لمعتقداتهم.

سابعًا: ما تؤكده   وسائل الإعلام والكتابات الإسرائيليّة عن عزوف الشّباب عن المشاركة فى الحياة   العسكريّة، ورؤية شباب الدّولة ورجالاتها عدم وجود مبرر لاستمرار الاحتلال   لأراضي الغير.. ويتساءلون: (هل هذه الحروب التي تخوضها الدّولة خيار أم احتلال)   ؟!

ثامنًا: الفشل في   القضاء على السّكان الأصليين، فالوضع الديموغرافيّ في صالح الفلسطينيين وليس عدوهم.. فالجيوب الاستيطانيّة في العالَم قسمان:قِسم نجح في القضاء على السّكان الأصليين؛   كالولايات المتحدة واستراليا، فيما لم ينجح القسم الثّاني الذي تنتمي له إسرائيل   في ذلك.

وهذا ما اكتشفه “بن   جوريون” مبكرًا عندما قال: (نحن الآن لا نُجابه مجموعة من الإرهابيين،   وإنما نُجابه ثورة قوميّة، لقد صهرنا أرضهم ولن يسكتوا على ذلك، وإذا قضينا على   جيل فسيظهر آخر).

تاسعًا: استمرار   المقاومة الفلسطينية فهي “جرثومة ” النّهاية للدولة الإسرائيليّة، وهذا   ما يؤكده أحد قادتهم بقوله: (رغم امتلاكنا لآلة عسكرية ضخمة.. إلا أنّا غير   قادرين على رصد صواريخ “القسّام” بسبب صناعتها البدائيّة، ونحن على استعداد لأن نعطيهم صواريخ (سكود) المتطورة ونأخذ صورايخ “القسّام”).

أمّا العلامة العاشرة   والأخيرة فهي: أنّ دولة الاحتلال قائمة على الدّعم الأمريكي، والبعض يتحدث الآن   عن أنّها باتت تمثل عبئًا على الاستراتيجية الأمريكيّة في المنطقة”. (انتهى   الاقتباس بتصرف).

وبالفعل .. نجد أمريكا   الآن ترسل رسائلها لإسرائيل؛ تحثّها على وضع تاريخًا محدّدًا لإنهاء حربها على “غزّة”؛لأنّها صارت حِملًا ثقيلًا على الاقتصاد الأمريكيّ ومنظومته العسكريّة المرهَقة   في:”أوكرانيا”، وتأمين مصالحها في “دول الخليج”، ومن   المطامع “الرّوسيّة”و”الصّينيّة” في عدد من المناطق السّاخنة   بالعالَم.. بل وعلى الرّأي العام لديها ودافعي االضّرائب الذين يرفضون بشدة   تمويل مجازر إسرائيل الوحشيّة ضد المدنيين ونساء وأطفال “غزّة”.

المشهد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى