مقالات

حرام الأمس .. حلال اليوم

حرام الأمس وحلال اليوم

صف قزموز
صف قزموز
بقلم:آصف قزموز

ثمة حدود للأشياء دائماً تحدد تخوم حلالها من حرامها، سواء كان الأمر في الأديان أو السياسة أو الاقتصاد، لا بل وفي كل مناحي الحياة، حيث تنضوي جل منظومة مكارم الأخلاق تحت لواء منظومة الشرائع والقوانين الوضعية والسماوية.
وعلى مستوى واقعنا المعاش مربوطاً بسالف قولنا، نستطيع أن نلحظ تجليات سافرة في الخروج والدخول على تلك النظم والقوانين، ما أبقى على الصورة المجتمعية لحياة الناس مهزوزة ومهزومة ومكسرة في شتى المجالات ومختلف المستويات عمودياً وأفقياً، وهو ما أثقل أيضاً كاهل المجتمع الفلسطيني، وأبقى على وضعنا في دائرة التردد الدائم ما بين حرام الأمس وحلال اليوم الذي كان حراما، دون أن نعطي لهذه التقافزات في التحليل والتحريم أسبابا منطقية، ودون أن نوفق ولو مرة في توقيت تحليل تلك المحرمات لصالح الشعب واللحظة المناسبة.
ولعلي لا أنسى تلك الحادثة، بينما كنت ألقي محاضرة العام 1982 في الجامعة في صوفيا، أمام حشد من الكوادر الفلسطينية والعربية من شتى المنابت والمشارب والأحزاب، عن تطور اقتصاديات البلدان النامية، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها على رأسي وأوسعوني اتهاماً، ذلك لأنني قارنت بين البلدان وصنفتها باستخدام تعبير البلدان المتخلفة والبلدان المتقدمة، وذلك بالمعنى الاقتصادي، إضافة الى استخدامي كلمة إسرائيل دون أن أضعها بين مزدوجين وكان ذلك حرام الأمس، واليوم لم يعد لمثل هذه الأمور أهمية أو حساسية تذكر ولم يعد يتوقف أحد عندها، وأصبح القادة الإسرائيليون يشاركوننا الحوارات على قدم المساواة ويناظرون ويستضافون على فضائياتنا في مناظرات سياسية وفكرية برداً وسلاما فأضحى ذلك حلالاً. تماماً مثلما لا أنسى أول مرة حاولت بها أن أشتري بنطلون شارلستون، فكان موقف والدي رحمه الله الرفض القاطع المانع، لأنه كان في ذلك عار، باعتبار أن تلك الموضة لا يتعاطى معها سوى الشباب الزعران والداشرين، ودخيلة على بلادنا وجاء بها الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967، لكن هذا الحرام لم يصمد أكثر من شهرين، حتى أصبحت أنا وكل أبناء جيلي لابسين شارلستون ومربيين شعر خنفس وسوالف جزمة، ومش بس هيك وخصر ساحل لَتِحت العصعوص، وتقبل الناس جميعاً هذا الأمر وكأنه موضة متوارثة عن الآباء والأجداد ولم تكن يوماً حراماً.
حتى في حيواتنا اليومية وفي السياسة، نلاحظ كيف انتقلنا عبر ما يقرب من نصف قرن أو يزيد، من منطق الرفض الجازم القائم على لاءات الخرطوم الثلاث، وصولاً لحلال اليوم الذي كان حراماً، وها نحن نكابد عناء إقناع الآخر بقبولنا وليس العكس. لا بل وأكثر من ذلك، نجد اليوم شوارع رام الله يجري إعادة رسمها وتخطيط أرصفتها التي كانت بالأمس خطوط بالأحمر والأبيض يمنع وقوف أو توقف السيارات عندها، طبعاً بالتأكيد حرصاً على سلامة الناس وتنظيم حركة السير وإلا لكانت مسموحة، واليوم نجد كل الأرصفة الممنوعة قد تغيرت ألوانها وأصبحت بالأزرق والأبيض مسموحة وحلال الوقوف فيها ولكن بالدفع المسبق، طبعاً وكما تعلمون أصبحت جل الخدمات في المجتمع بما فيها تلك التي كانت مجانية، بتنا نتحصل عليها بنظام الدفع المسبق، يعني ادفع فلوس وخالف النظام زي ما بدك، ولربما يأتي يوم إن لم يكن قد أتى بعد، يجري فيه تسعير ثمن الجرائم والممنوعات وكل ما هو حرام ليصبح متاحاً لمن يملك الثمنْ، فنقول حسيبك للزمنْ، لا عتاب ولا شَجَنْ، وهو بالمناسبة موجود على نحو ما على المستوى الدولي، ولكن بشكل غير معلن بالنصوص والتشريعات بل بالممارسة.
هذه القضية قضية حقيقية وجدية وجدلية ذات مضامين فكرية وسياسية وأخلاقية إنسانية، لكنها في مطلق الأحوال تبقى قابلة للتحول والتطور والتغير بتغير الظروف والزمان ومعطياتها وشروطها، وفي رحم ذلك يتموضع بقوة كنه وجوهر نواة العقد الاجتماعي، الجامع والموحد لعلاقات الشعوب وفلسفة التصالح ما بين المصالح في مختلف المستويات ومناحي المجتمعات المتباينة شكلاً ومضموناً.
بالأمس القريب، عندما أطلقوا العنان لمصطلح الإرهاب، وطرح للتداول بغزارة من قبل الأوساط الأميركية والغربية عموماً، كانت الحركات التحررية وبقايا ثورات القرن الماضي تثور ثائرتها وترفع عقيرتها متبرِّمة ومستشيطةً غضباً معتبرةً في الأمر إشارةً صريحة واتهاماً ومساساً مقصوداً بنضالها التحرري الوطني، وكنا نحن في طليعة المستشيطين الرافضين لتلك التسمية، باعتبارها لم تميز النضال التحرري والحروب العادلة عن الإرهاب الإجرامي والحروب الظالمة. كيف لا ونحن الذين شهدنا بالأمس المبكر العالم الإسلامي يعلن على الملأ التخلي عن مصطلح الجهاد بعدما كان حلال شرعاً، وها نحن اليوم نعود لننادي بالجهاد ضد الإرهاب على اختلاف دواعشه، وبتنا نستخدم هذا التعبير بإفراط مسرف ولافت، إذ لم يعد هناك أحد ولا فضائية أو وسيلة إعلام لا تستخدم هذا المصطلح عشرات المرات في أي حديث أو نشرة، وبذات المعاني التي حرمت من أجلها بالأمس لتستحيل اليوم حلالا.
عندما قام جنود الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء على فتية فلسطينيين، في عملية ما سمي تكسير الأيدي إبان أحداث انتفاضة العام 1987 ، حيث اهتزت مشاعر العالم والمجتمع الدولي، وشكلت موقفاً محرجاً لحكومة الاحتلال، وحصلت ضغوط وإدانات دولية كبيرة على حكومة الاحتلال من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، أما اليوم فقد انهارت وغابت بعيداً تلك الأخلاق والقيم الأممية الإنسانية وأصبحت عمليات القتل والهدم والتدمير في وضح النهار بحق المدنيين الأبرياء في فلسطين ودول المنطقة عموماً، أمرا طبيعيا لا تهتز له مشاعر أو قصبة، ولا يجد ذات الحساسية وردود الفعل الإنسانية التي كانت بالأمس، نعم وأصبحت الحروب التي تشن على الحكام والأنظمة على رؤوس الشعوب، تتمتع بقرارات وغطاء دولي مسبق أولاحق وعند اللزوم، لا بل ودخل نهج الحروب واستخدام القوة في توضيب الدول غير المستقرة أو المستتبة، ليصبح جزءاً مكوناً للسياسات الدولية، حيث أصبح البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة لاعب الاحتياط الجاهز للتدخل السريع في أي دولة، وأي حرب باتت اليوم قابلة للتبرير وإيجاد النصوص والتشريعات الدولية التي تغطيها، وهو ما لم يكن متيسراً على ذات النحو والسهولة حتى الأمس القريب، ولربما يعود ذلك بالطبع لمعادلات التوازن الدولي المتمكنة والمتسيدة آنذاك، واختلالها وتحولاتها في الوقت الحاضر.
نعم يا سادتي، فما لم يكن مقبولاً بالأمس، أصبح اليوم متاحاً وحلالاً زلالاً. إنها انهيارات واختلافات وتحولات منظومة الأخلاق الإنسانية والقيمية في المجتمعات والمجتمع الدولي الحاكم حصرياً، وهنا تكمن الخطورة، لأن في كل هذا التحول والتشوه في السياسات الدولية وسلوك الأمم المتحدة المتحول أيضاً، سبباً وجيهاً ساعد على ترعرع ونمو الفكر المتطرف والعصبيات الدينية والإثنية والطائفية، وبذلك أجرؤ على القول بأن داعش والداعشية ليست مجرد تنظيم سياسي إرهابي متطرف، وإنما نتاج وحالة أكثر شموليةً واتساعاً مما ينظر إليه البعض. وما لم ننظر لداعش بمعناها الواسع هذا، فلا أمل يرجى بقرب الخلاص منها ومن امتداداتها المتشعبة تحت مسميات مختلفة في جوهر واحد لا يخفى على الساسة بهذه البساطة والسطحية التي نراها.
فلو نظرنا إلى الوراء عقوداً وقروناً وصولاً ليومنا هذا، لوجدنا بجلاء كيف تطورت منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية باتجاه الانهيار التدريجي وصولاً لانهيارات استراتيجية شاملة، فكلما أوغلنا في النظر نحو الماضي، نجد كيف أن تلك المنظومات القانونية والإنسانية والأخلاقية، كانت أكثر قرباً وتماهياً مع المبادئ ومكارم الأخلاق الوضعية والسماوية في حب الإنسان، لتحل محلها اليوم المنظومات القائمة على أساس توازن المصالح المادية وحسب، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي على حد سواء. ومع كل هذا وبه يجب أن تبقى بوصلتنا الوطنية مسددة نحو خيار السلام الاستراتيجي الذي ارتضيناه.
وأخيراً أقول، أنه مع كل هذا الحلال الحرام والحرام الحلال، المبني على أساس الأهواء والمصالح المتنفذة أو المتسيدة، قد يجري استيلاد حلول سياسية بمواصفات خاصة لبؤر التوتر القائمة، لكن الأهم من ذلك، هو أن نخطط ونقرر في هدي سالف الحقائق المسردة، وليس بتجاهلها والاستمرار بتحديد المواقف على أساس رؤية حرام الماضي الذي بات حلالاً وحلال اليوم الذي أضحى حراما. ويبقى لسان حالنا هو:” صادِني في غَرامَهْ غَشِّني في كَلامَهْ، دَشِّ قلبي وِصادَهْ مِثِل صِيدِ الحمامَهْ”. بأمسِ الحرام المتاحْ وحلال الْيُومْ، القَلِب مَلْيانِ جْراحْ وِعْيُونو مَلْيانِه نُومْ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى