السياسة

الصهيونية والنازية بين المفهوم والتطبيق

تدّعي الصهيونية أنّ اليهود كانوا أول وأكثر ضحايا النازية، واستغلوا هذه الإشكالية لإقامة دولة يهودية في فلسطين المحتلة، باعتبار أنّ لهم الحق بالعودة المقدّسة إلى صهيون، وذلك وفق وعد إلهي مُفترَض يمنحهم مُلك فلسطين لكونهم شعب الله المختار حسب العقيدة التوراتية المزعومة. ولا زالت الصهيونية اليوم تبتزّ العالم متذرّعةً بتاريخ طويل من الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود في الشتات، حيث تتوّج بالهولوكوست الذي تمّ تضخيمه والمبالغة فيه لاستغلاله في المشروع الصهيوني. لكنّ نظرة معمّقة للفكر والممارسات الصهيونية توضّح مدى التشابه والتقاطع بينها وبين النازية، لا بل تجاوزت الصهيونية بإرهابها وعنصريّتها كلّ الأفكار والأفعال النازية. لذلك تتطلّع هذه الورقة البحثية إلى دراسة العناصر المشتركة بين الصهيونية والنازية، والكشف عن نقاط التقاطع بينهما على مستوى المفاهيم والتطبيقات، خاصةً وأنّهما تشتركان بالنشأة الغربية الأوروبية نفسها، وبالاستقاء من نفس المصادر الفكريّة والفلسفيّة والإيديولوجيّة.

تعريف الصهيونية

تعدّدت التعريفات حول الصهيونية واختلفت باختلاف وجهات النظر التي تتناولها، فالباحثون الصهاينة اعتبروها حركة تحرير للشعب اليهودي، والدارسون المتعاطفون مع الصهيونية وصفوها بحركة سياسية دينية تسعى إلى تعويض اليهود عن الظلم والحرمان والاضطهاد، بينما ينظر إليها الباحثون العرب والمسلمون المناوئون لها على أنّها حركة استيطانية تهدف إلى تقتيل وتشريد الشعب الفلسطيني لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين.

وبناءً عليه، “هي حركة سياسية يهودية، ظهرت في وسط وشرق قارة أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ودعت اليهود للهجرة إلى أرض فلسطين، بدعوى أنّها أرض الآباء والأجداد (إيريتس يسرائيل)، ورفض اندماج اليهود في المجتمعات الأخرى للتحرّر من معاداة السامية والاضطهاد الذي وقع عليهم في الشتات”. (Hazony & Oren, 2007, p. 37).

ولكي يحسم جدل التعريفات للصهيونية عرّفها (الطيّب بوعزة) في بحث دقيق وشامل يفنّد فيه التعاريف السابقة على أنّها “حركة ظهرت في القرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية، وقد استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي فانتهت إلى إقامة دولة عنصرية في فلسطين، مرتكزة في إقامتها لدولتها هذه على جدلية الإجلاء والتوطين، إجلاء للفلسطينيين أصحاب الأرض وتوطين اليهود بدلاً عنهم” (بوعزة، 2009).

ولكن بناءً على فهمي للعقلية الصهيونية وأبحاثي المعمّقة فيها، يمكنني صياغة تعريف إجرائي للصهيونية أنّها حركة غربية إرهابية إفسادية إحتلالية، علمانية المنشأ ودينية الاتجاه، حيث استغلّت النصوص التوراتية وتعاليم التلمود والأساطير اليهودية الشرقية لإسباغ العقيدة على الدين. وهي تنتهج الرأسمالية الاستغلالية كمنهج اقتصادي قابض على العالم، وتقوم على فكرة التفوّق اليهودي إزاء عقدة النقص التاريخي، وترى فلسطين نقطة تعضّي وانطلاق للسيطرة على العالم، وتُعادي جميع الشعوب والأديان والحضارات. إنّها بعبارة واحدة إيديولوجيا ضدّ-إنسانية تسعى إلى العلوّ والإفساد وحُكم الأرض.

تعريف النازية

“عرقٌ هو الأعلى سيقضي على الأعراق الضعيفة، لأنّ الحاجة الحيويّة تسحق الضعيف لإفساح المجال أمام الأقوى… ألا يبدو سخيفًا القول أنّ بالإمكان (جرمنة) صيني أو زنجي بمجرّد تعليمه اللغة الألمانية؟ هذه ستعطي نتائج عكسية، لأنّها تقضي باختلاط الألمان الحقيقيّين بالأجناس الوضيعة…” (هتلر، 1975، الصفحات 62-63).

يشكّل هذا الكلام – الذي أورده هتلر في كتابه “كفاحي” – أساس النازية، حيث يزعم أنّ العرق الآري الجرماني هو أسمى الأعراق، وينظر إلى سائر الاجناس على أنها أعراق أدنى من الآريين، الذين يحقّ لهم قتل واستعباد الشعوب الأخرى والسيطرة على العالم. وهنا يكمن جوهر النازية.

إنّ النازية (Nazism) – لغويًّا – تشكّلت من حروف الإسم المختصر للحزب الاشتراكي الوطني الألماني، (بالألمانية: Nationalsozialismus)، وذلك كرمز لغوي اشتقاقي يُشير إلى هذا الحزب. ولكن على مستوى المعنى الاصطلاحي “هي أيديولوجيا وممارسات سياسية شمولية يمينية متطرّفة مرتبطة بأدولف هتلر والحزب النازي في فترة ألمانيا النازية” (Fritzsche, 1998, p. 54) .

فالنازية مذهب فلسفي سياسي واجتماعي وأيديولوجي أحادي الاتجاه، وهي تقوم على منهج “ازدراء الحريّات والديمقراطية الليبرالية والنظام البرلماني. وتشتمل على الديكتاتورية، معاداة السامية، معاداة الشيوعية، معاداة السلافية، عنصرية علمية، سيادة الآريين، نوردية، داروينية اجتماعية واستخدام تحسين النسل” (Lower, 2003, p. 79).

إذًا النازية حركة إرهابية تدميرية، تشكّلت كردّ فعل غير عقلاني على هزيمة ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى والظروف الاقتصادية والاجتماعية المذلّة التي فُرضت عليها، وقد استغلّت الدين المسيحي رغم علمانيّتها لجذب المواطنين الألمان، وكذلك تمجيد التاريخ الألماني. وقد ألغت حق الشعوب بالوجود واعتبرتها أدنى من العرق الجرماني، وسعت إلى السيطرة على العالم قتلاً وتدميرًا وتحقيرًا للبشر.

وبنظرة سريعة إلى تعريفات النازية نجدها تتوافق مع تعريف الصهيونية، بل وتنطبق عليها في كثير من النقاط المشتركة. فكلاهما حركتان عنصريتان إرهابيتان، تعتقدان بأنّ الشعوب الأخرى وضيعة وحقيرة ولا تستحقّ الحياة، وهما تقومان على العنصرية والاستعلاء، وتسعيان إلى السيطرة على العالم وفرض إيديولوجيّتهما التسلّطيّة، كما استغلّتا الدين بالرغم من كونهما حركتَين علمانيتين توسّعيتين.

أسبقيّة الصهيونية على النازية

إذا تتبّعنا المسار التاريخي للصهيونية القديمة نجدها قد سبقت النازية بآلاف السنين، حتى الصهيونية الحديثة سبقت النازية بمئات السنين. فقد وردت لفظة “صهيون” لأول مرة في العهد القديم بين 1000 – 960 قبل الميلاد، وقامت حركة المكابيين بين 586 – 538 ق.م التي تلت السبي البابلي لتنادي بعودة اليهود إلى صهيون، وخلال القرن الأول الميلادي بين العامين 118 – 138 برزت حركة  باركوخيا لحثّ اليهود على التجمّع في فلسطين وتأسيس دولتهم اليهودية عليها، بعد ذلك دخل اليهود في حالة سبات تاريخي خلال شتاتهم إلى أن جاءت حركة دافيد روبين وسولومون مولوخ اللذَين سعَيَا إلى دعوة اليهود الأوروبيين للعودة إلى فلسطين وقيام مملكة إسرائيل (البُعد العقائدي)، وفيما بين العامين 1604 – 1657 م قام منشه بن اسرائيل بوضع النواة الأولى للخطط الصهيونية التي ألهمت الحركات الصهيونية التي جاءت بعده، وهو الذي وضع لها أسُسها السياسية مقنعًا البرجوازية الملكية البريطانية بها (البُعد السياسي).

وبين العامين 1626 – 1676م ظهرت حركة سبتاي زيفي الذي أقنع اليهود في أوروبا بالاستعداد للعودة إلى فلسطين مستغلّاً العوامل النفسية والوجدانية (البُعد النفسي)، وبعد موته أتت حركة روتشيلد ومونتفيوري في بداية العام 1750 بقوة مالية ضخمة لتؤسّس الحركة الفكرية الاستعمارية الداعية إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين (البُعد المالي)، وفي سنة 1882 تأسّست الحركة الصهيونية العنيفة بعد مذابح اليهود في روسيا لتمهّد لسلوك الانتقام والثأر اليهودي (البُعد السلوكي)، وبحلول العام 1890م تبلورت حركة أحبّاء صهيون التي قادها ليون بنسكر الذي أسّس “جمعيّة مساعدة الصنّاع والمزارعين اليهود في سوريا وفلسطين” للبدء بالهجرة الاستيطانية وإحياء اللغة العبرية (البُعد الاجتماعي)، وفي العام 1893 بدأ المفكّر الصهيوني الألماني ناثان برنباوم يستخدم مصطلح الصهيونية في كتاباته العلميّة ليكون مرجعًا فكريًّا للصهاينة (البُعد الفكري)، وأخيرًا وليس آخرًا، عقد تيودور هرتزل أول مؤتمر صهيوني عالمي سنة 1897م حيث تقرّر إقامة وطن قومي لليهود والسيطرة على العالم بدءًا من احتلال فلسطين (البُعد العملي).

وهكذا اكتملت عبر هذا المسار الزمني كلّ الأبعاد: العقائدية، السياسية، النفسية، المالية، السلوكية، الاجتماعية، الفكرية، والتطبيقية العمليّة للصهيونية. كلّ ذلك المسار استغرقته الصهيونية ولم يكن الحزب النازي قد وصل إلى حكم ألمانيا بعد. وقد أردنا من هذا السرد التاريخي السريع أن نثبت أنّ الصهيونية أسبق من النازية بزمن سحيق، بما فيها الصهيونية الحديثة بصورتها النهائية على يد هرتزل. كما إنّ الأفكار العنصرية والانتقاء العرقي والتفوّق النوعي، والتي هي أفكار النازية، كان قد وضعها سابقًا مفكّرون يهود أمثال: موسى هيس الذي وضع أسُس العنصرية اليهودية في كتابه (روما والقدس) عام 1862 أي قبل النازية بسبعين عامًا، وكذلك مارتن بوبر الذي كتب حول جذور الدم اليهودي.

لقد وضعت ألمانيا النازية قوانينها العنصرية الإلغائية العنيفة استنادًا إلى الأفكار الصهيونية، حيث أكّد القادة النازيون المعتقلون بعد الحرب العالمية الثانية أمام محكمة (نورنبيرغ) أنّهم استمدّوا القوانين النازية من الأفكار الصهيونية. وقد صرّح المنظّر النازي (يوليوس سترايشر) خلال محاكمته أنّ فكرة النقاء العرقي والتفوّق الآري، وخاصة عدم اختلاط الدم الجرماني بدماء الأعراق الأخرى، قد استلهمها من الصهونية واليهودية، حيث قال: “القوانين الصهيونية اليهودية، مثل عدم اختلاط الدم اليهودي بدماء الأغيار، هي التي اتخذناها نموذجًا (لقوانين نورنبيرغ). إنّه أصل اليهودية التي استطاعت بفضل قوانينها العرقية أن تستمر طوال قرون”.

وقد أكّد كلام المنظر النازي (سترايشر) القاضي الصهيوني (حاييم كوهين)، الذي كان رئيسًا لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، فقال: “إنّ سخرية القدر أرادت أن تكون الطروحات العرقية والبيولوجية التي يتبناها النازيون، وكانت وراء قوانين نورنبيرغ، هي نفسها التي يُبنى عليها تحديد صفة اليهودية في إسرائيل”. كما إنّ فكرة التفوّق اليهودي كانت سابقة بعصور سحيقة لفكرة التفوق النازي، حيث ” يقول المفكرون الصهاينة أنّ الحاجة إلى إقامة وطن قومي يهودي قديمة، ظهرت بعد الأسر البابلي على يد نبوخذ نصر، وكذلك اعتقاد المتدينين اليهود أن أرض الميعاد (التسمية اليهودية لأرض فلسطين) قد وهبها الله لبني إسرائيل فهذه الهبة أبدية ولا رجعة فيها” (ساند، 2013، صفحة 181). إذًا، الصهيونية لها الأسبقية على النازية، بل وكانت مُلهمة للنازيين في تأسيس النسق النازي وفي التفكير والتطبيق.

التقاطع والتشابه بين الصهيونية والنازية

كتب أبراهام بورغ أنّ “إسرائيل شبيهة بألمانيا عشية صعود النازية إلى الحكم، بحيث كان الشعب الألماني ناقمًا على العالم. وفي إسرائيل هناك شعور بالإهانة القومية الكبرى والهزيمة غير المبررة في الحروب، ونتيجة لذلك أصبحت العسكرة مركزية في الهوية” (بورغ، 2006، صفحة 29).

وفي كتابه “لننتصر على هتلر” يتحدّث بورغ عن أنّ إسرائيل لم تنتصر على النازية بسبب سلوكها العنيف مع الفلسطينيين، بل تشبّهت بها وصارت تمارس جرائم الحرب والإبادة والعنصرية والنزعة العرقية الإسرائيلية، حيث يُضيف: “إنّ إسرائيل دولة عسكرية، وهي تتدهور في اتجاه الفاشية، وما تنفّذه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية هو جرائم حرب” (بورغ، 2006، صفحة 31).

إذًا هذا المفكّر الإسرائيلي التمسَ خطر العدوانية الصهيونية، وحذّر من أنّها ستحمل نهاية إسرائيل تمامًا كما انتهت النازية بسبب أفعالها العدوانية. وتجدر الإشارة إلى أنّ كتابه يهدف إلى الابتعاد عن عسكرة المجتمع الإسرائيلي والقتل والمجازر وليس تشبيه الصهيونية بالنازية، لكنّنا نستنتج من كتابه تشابهًا عميقًا بينهما.

وأكّد فيلسوف النازية الفريد روزنبيرغ في كتابه “محاكمة اليهود في العصور المتغيرة”، على القواسم المشتركة بين النازية والصهيونية، حيث تأثرت – كما النازية – بفلسفة القوة النتشوية والأفكار اللاعقلانية العنصرية والعضوية والعرقية التي تصاعدت في أوروبا إبّان ظهور الفاشية كمذهب فلسفي وسياسي، أضف إلى ذلك أنّ الصهيونية تؤمن بنقاء العرق والدم اليهوديّين، علمًا أنّ اليهود لا يشكّلون عرقًا واحدًا متجانسًا.

ومن خلال الاطلاع على نشأة وسيرورة النازية والصهيونية، نكتشف الكثير من النقاط المشتركة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى